سن الرشد (نحت)
سن الرشد The Mature Age وتسمى أيضاً المصير The Destiny ، طريقة الحياة The Way of Life أوالقدَر The Fate (1894–1900) هوأحد المنحوتات الرئيسية للفنانة كامي كلودل. وتوجد نسخة منها مصنوعة من الجص ثم صـُبَت في البرونز، وأخرى مصنوعة من البرونز، وهما على الترتيب معروضة في متحف أورساي ومتحف رودان.
بعد الفراق بين كامي كلودل وأوگوست رودان، الذي رفض حتى يتزوجها، حاول رودان حتى يساعدها عبر إنسان آخر وحصل من مدير الفنون الجميلة على تكليف من الدولة: سن الرشد صدر التكليف بصنعه في 1895 وعـُرض جصاً في 1899 في صالون الجمعية الوطنية للفنون الجميلة. وقد صبه برونزاً تييبوThiébaut وعـُرض في متحف أورساي. وثمة نسخة ثانية مصبوبة برونزاً بيد كارڤلانيا Carvelhania بعد 1913 وعُرض في متحف رودان.
يعكس العمل هجر رودان لكلودل: فهي تتوسل إليه راكعة بينما يفضل هوالعودة إلى روز، صديقته القديمة. وقد شرحت كلودل تلك الرمزية في رسائل إلى شقيقها پول كلودل، الذي كان في حينها قنصلاً في نيويورك. ولذلك يُعتبر هذا العمل بمثابة سيرة ذاتية.
«إنها أختي، تلك المرأة المتوسلة الراكعة منتحبة على ركبتيها. أختي تلك التي اعتادت حتى تكون رائعة وفي أقصى حالات الكبرياء. إنها أختي، فهل تدرون ما الذي يُنتزع منها هنا أمام أنظاركم،يا ترى؟ إنه روحها!». بهذه العبارات تحدث ذات يوم عند بدايات القرن العشرين، واحد من أكبر شعراء فرنسا، پول كلودل. وكان حديثه يتعلق تحديداً بمنحوتة ضخمة توجد نسختها من الجبس معروضة منذ زمن طويل في متحف أورساي الباريسي، فهماً حتى للمنحوتة نسختين أخريين من البرونز لم تتمكن صاحبة المنحوتة من الحصول عليهما. والسبب أنها حين انتهت من إبداع ذلك العمل الفني لتعرضه في «صالون الفنون الجميلة» الباريسي، لم تكن تملك المال الكافي لعملية صب المنحوتة في البرونز، فتولى العملية كابتن ثري دفع التكاليف ليحتفظ بالنسخة البرونزية لنفسه، كما سيعمل من بعده ثري آخر. فبقي للنحاتة الأصل الجبسي. لكنها هي كانت في ذلك الحين قد أضحت في جوآخر تماماً... في مصحة للأمراض العقلية! ذلك حتى الفنانة التي نتحدث عنها هنا ما هي سوى كامي كلودل، أخت الشاعر الفرنسي الكبير. أما المنحوتة في حد ذاتها، فتروي، كنوع من «نحت السيرة الذاتية»، وتحديداً، حكاية وصول كاميل الى تلك النهاية. وهي حكاية تتعلق على أي حال بالنحات الفرنسي الكبير رودان، كما بات كثر منا يعهدون، وعلى الأقل منذ ظهور الفيلم الذي كرسه السينمائي برونونويتن Bruno Nuytten لتلك الحكاية.
والحقيقة أنه قبل حتى يحقق نويتن فيلم «كامي كلودل» من تمثيل زوجته في ذلك الحين، الفنانة إيزابيل أدجاني، معطياً هذه الأخيرة واحداً من أجمل أدوار حياتها وأقساها، كان الفرنسيون لا يعهدون من أسرة كلوديل سوى الشاعر والمحرر المسرحي الكبير بول كلوديل، الذي اتسمت سيرته على الدوام بقدر كبير من الجدية والصرامة، وتصرفاته بالموضوعية، وشعره بالطابع الروحاني الكاثوليكي الصرف. فالرجل كان - بعد جميع شيء - سفيراً لبلاده، فرنسا، في فترة من مراحل حياته. ومن هنا، كان الفرنسيون يكنّون له احتراماً مشوباً بوضع مسافة دائمة بينهم وبينه.
لكن منذ اللحظة التي اكتُشف فيها فيلم نويتن، صار اسم كلوديل الأكثر شهرة، اسم كاميل كلوديل، شقيقة بول، ونقيضته في جميع شيء: في الشخصية، في الوله والعاطفة، في سيرة حياتها، وفي نهايتها المأسوية. فالحال حتى كاميل كلوديل، التي ماتت في العام 1943، عن سن الثامنة والسبعين، وحيدة منعزلة لا يتنبه لها، لوجودها أولموتها، أحد في وقت كانت فرنسا تعيش أحلك ساعات تاريخها خلال الحرب العالمية الثانية، كامي كلودل هذه عاشت حياة صخب ووله غريبة، من الممكن كانت تعكس في حد ذاتها مصيراً أنثوياً كاملاً خلال النصف الأول من القرن العشرين هذا.
مهما يكن فنحن، إذ نذكر كاميل كلوديل هنا، فليس - من طبيعة الحال - بسبب سيرة حياتها ونهايتها المأسوية وغرامها المدمر، بل لأنها كانت واحدة من النحاتات الفرنسيات القليلات اللواتي عهدن كيف من الممكن أن يثبتن لأنفسهن مكانة في فن النحت الذي عهد على الدوام بأنه يكادقد يكون وقفاً على الذكور. في ذلك الحين، عند نهايات القرن التاسع عشر وبدايات ذاك التالي له، أي في الزمن الذي حققت كاميل أفضل منحوتاتها، وبخاصة منحوتة «سن الرشد» التي نحن في صدد الحديث عنها هنا، كان النحت فناً ذكورياً بامتياز، ولم تكن فورة النحاتات النساء قد ظهرت بعد، بحيث صارت الساحة الفنية الفرنسية تعهد العشرات منهن، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فإذا إضفنا الى هذا حتى كاميل كانت كلاسيكية في توجّه منحوتاتها، كلاسيكية تكاد تكون حرفية في شكل لم يُعهد لدى فنانات نساء من قبل، يمكننا حتى ندرك بعض سمات العزلة التي عاشتها تلك المبدعة، وجعلت مأساتها أكثر من مزدوجة.
كمنت مأساة كاميل كلوديل، في أنها أرادت حتى تكون آخر المبدعين الرومانطيقيين، لذلك، ما إذا تعرّفت الى النحات الكبير أوگ,ست رودان بوصفه أستاذاً - مفهماً، حتى أغرمت به وبدأت تعيش معه علاقة حب، جعلتها تمّحي أمامه تماماً. ففي أي مكان كان يجمعهما، كانت كاميل تبدي أمامه جميع آيات الطاعة، أولاً لأنه مفهم كبير، وثانياً، لأنه حبيبها، وثالثاً لأن رودان كان يثمن ذكوريته تثميناً كبيراً زاد من صلابة تعامله مع الحجر في الفن الذي أبدعه.
> ومن هنا، كان من الطبيعي لكاميل كلوديل حتى تعيش سنوات شبابها ممزقة بين مثلها العليا القديمة كفتاة متمردة تسعى الى التساوي مع الرجال، وتستفيد من علاقتها بأخيها الشاعر العقلاني، إمعاناً في وعي العالم بعقل متنبه وتواكب مع مساواة كانت النساء قد بدأن يسعين إليها عند العقود الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، من ناحية، وولعها برودان، ذلك الأستاذ المبدع والعشيق القاسي المتسلّط.
هذا التمزّق حسمته كاميل كلوديل لمصلحة قلبها على حساب عقلها، فكان حتى جعلت حتى منحوتاتها مجرد محاكاة لمنحوتات حبيبها الكبير، وجعلت نفسها ظلاً له، تقبل بما يريده لها، وترفض ما ينكره عليها. سليم حتى رودان بادلها حباً بحب خلال فترة طويلة من الزمن، بيد حتى عقلانية التعامل مع الحجر، والتوجه الكلاسيكي الذي وسم فنه وحياته ومناوأته للرومانسية، هذا كله جعله عاجزاً عن التعايش مع حبها وولهها.
فكانت النتيجة حتى انحدرت كاميل بالتدريج نحوالجنون. هذا الجنون تمثل أولاً في انعكاسه على منحوتاتها، - لا سيما منها منحوتة «سن الرشد» التي تعتبر واحدة من أجملها وأشهرها - تلك المنحوتات التي بدأت تخرج عن الأطر الكلاسيكية والموضوعية لتدخل ملكوت الفن الحقيقي، وسط معارضة رودان نفسه لذلك. ثم بدأ - الجنون - يتمثل في الانحدار العملي والجسدي الذي عاشته كاميل، والذي ظل يتواصل ثلاثين عاماً، كانت مجموع أعوام القسم الثاني من حياتها، أي القسم الذي أمضته كله في مستشفى للأمراض العقلية.
سليم حتى الخط التقني الذي اتبعته كاميل في تحقيق «سن الرشد» (ولها عناوين أخرى على أي حال، مثل «المصير» و»القدر» و»طريق الحياة»، وكلها كما نلاحظ عناوين لا تتعلق بالمنحوتة نفسها بقدر ما تتعلق بما كانت النحاتة ترغب قوله من خلالها)، سليم حتى هذا الخط تعبيريّ في كلاسيكيته وأنيق في تشكّله ويبدوتجديديّاً الى حد كبير في مجال استخدام الكتل الجامدة والتوزع في المكان، غير حتى الأهم من هذا بالنسبة الى كاميل، كان في مكان آخر. في ذلك «المكان» الذي عبّر عنه أخوها بول في المقتطف الذي ذكرناه أعلاه. ففي هذه المنحوتة، ثمة بالتأكيد حكاية هي حكاية كاميل مع رودان. حيث حتى ما نراه بأم أعيننا هنا إنما هوالغرام الذي كانت كاميل لا تزال تحمله بكل شغف وجنون لرودان الذي كان قد بدأ يصدها ويتخلى عنها بعد ما يقرب من عشرين عاماً من علاقة صاخبة بينهما. فالنحات الذي كان ملء السمع والبصر في فرنسا العصر المضى في ذلك الحين، لم يكن من النوع الذي يمكنه حتى يعيش غراماً حقيقياً. كان دائماً ما يريد من المرأة، أي امراة، حتى تكون مجرد تابعة له. عبدة لمزاجه ونرجسيته إذا صح التعبير... ومن هنا كانت السنوات الطويلة التي عاشتها « سيرة الحب» بينه وبين كاميل، أشبه بسيرة حب من طرف واحد، هي تحبه بجنون وتضحّي بكل شيء من أجله، وهويتملص منها مندفعاً في علاقات يصخب بها المجتمع. ولئن كانت كاميل قد سكتت عن معظم تلك العلاقات، فإن علاقة أقامها بعد جميع تلك السنوات مع الحسناء روز بوريه، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل. ومن هنا، فإن روز هي الشخص الثالث في المنحوتة، الشخص الذي يندفع إليه النحات، فيما كاميل تحاول الإمساك به واستعادته جاثية على ركبتيها متوسّلة باكية... «تُنتزع روحها» أمامنا كما نطق أخوها معلقاً على هذا العمل الفني الذي لمرة نادرة يحوّل النحت الى فضاء يعبر عن سيرة الذات!
يمكننا القول بعد جميع شيء حتى تلك المنحوتة تحدد تاريخياً انتنطق كاميل كلوديل الى الجنون، ليكون ذلك الانتنطق إشارة الى تلك النقلة السريعة التي حدثت في حياة امرأة القرن العشرين، وتمزقها بين رغباتها وطموحاتها، بين إمكاناتها الذاتية وما يعرض لها في الخارج، بين عواطفها المستقاة من رومانسية مغرقة في القدم من ناحية، وحدود العاطفة من ناحية أخرى، كما صاغها القرن العشرون، قرن العقل والجنون غير الخلاق.
الهامش
- ^ Bluetravelguide.com Retrieved June 18, 2009.
- ^ Le-grain-de-sel-de-keline.com Retrieved June 18, 2009.
- ^ إبراهيم العريس (2018-09-04). "«سن الرشد» لكاميل كلوديل: صورة مريرة لتمزّق امرأة". صحيفة الحياة اللبنانية.