ميگل دى سرڤانتس

عودة للموسوعة

ميگل دى سرڤانتس

ميغيل دي ثيربانتِس

ميگِل دي ثيربانتِس سابـِدرا (Miguel de Cervantes Saavedra) عاش (قلعة الهنارة 1547م- مدريد 1616م) هومحرر أسباني. اشتهر بروايته "دون كيخوته دي لامانشا" أو"دون كيشوت" (1605-1615م)، وهي شخصية مغامرة حالمة تصدر عنها قرارات لاعقلانية. هجرت حياة "ثيربانتِس" الحافلة بالأحداث أثرا بليغا في أعماقه، وتجلى ذلك في طغيان روح السخرية والنادىبة على أعماله. يُعتبر من بين أشهر الشخصيات الإسبانية في العالم، وقد كرمته بلاده فوضعت صورته على بترة الـ50 سنتا الجديدة.

نص كتاب دون كيشوت انقر على الصورة للمطالعة

حياته

فيتسعة أكتوبر 1547، وجريا على العادة الأسبانية بتسمية جميع طفل باسم القديس الذي يحتفل بذكراه في يوم ميلاده، عمد خالق دون كخوتة وسانشوبانزا باسم »ميجل دي سرفانتس« في »القلعة«. وقد اضاف-وربما اضاف أبوه أيضا- اسم سافيدرا، من الأسرة القشتالية التي تزاوج فيها أسلافه الغاليسيون في القرن الخامس عشر. وكان الأب طبيبا غير مرخص، ثقيل السمع قليل المال، ينتقل من بلد إلى بلد ليجبر العظام ويطبب الاصابات الخفيفة، ويبدوحتى الصغير ميجل صحبه إلى بلد الوليد، ومدريد، واشبيلية. أما تعليم الصبي فلا نعهد عنه شيئا، فيلوح انه لم يحظ بتعليم عال برغم مولده في مدينة جامعية، ومن ثم لم تطهره الدراسات الكلاسيكية ولا زحمته، واضطر إلى التقاط معهدته بالحياة من العيش فيها. وأول ما نملك من الحقائق عنه بعد سجل عماده حتى مفهما من مدريد نشر عام 1569 مجلدا احتوى ست قصائد بقلم »تلميذنا العزيز المحبوب« سرفانتس. وفي سبتمبر من تلك السنة قبض على المدعوميجل دي سربانتس بتهمة الاشتراك في مبارزة، ونفي من أسبانيا عشر سنوات يعاقب دونها ببتر يده اليمنى. وفي ديسمبر نجد فنانا ميجل يخدم في بيت كبير من رجال الكنيسة في روما. وفي 16 سبتمبر 1571 نرى ميجل هذا، من الممكن مدفوعا (مثل كامؤنش) بتفضيل الخدمة العسكرية فرارا من السجن، مبحرا من مسينا على السفينة »ماركيزا« في أسطول دون جوان النمساوي. وحين التحم الأسطول بالهجر في ليبانتوكان سرفانتس مريضا بالحمى في عنبر سفينته، ولكنه وضع على رأس اثني عشر رجلا في زورق إلى جوار السفينة لأنه أصر على لعب دوره، وأصيب بثلاثة جروح من طلقات نارية، جرحين في صدره والثالث أعجز يسراه عجزا مستديما-»لنصرة الحق« على حد قوله. وأعيد إلى المستشفى بمسينا ودفعت له الحكومةالأسبانية اثنتين وثمانين دوكاتية. ثم شارك في معارك حربية أخرى- في نافارينو، وتونس، وجوليتا (لاجوليت). وأخيرا جاز له بالعودة إلى أسبانيا، ولكن قرصان البربر أسروه هووأخاه رودريجوفي رحلة العودة إلى الوطن (26 سبتمبر 1575) وباعوهما في سوق الرقيق بالجزائر. واقنعت الرسائل التي حملها من دون جوان وغيره آسريه بأنه رجل ذوحيثية، فطلبوا عنه فدية كبيرة. وظل ميجل أسرا خمس سنوات مع ان أخاه أطلق سراحه في عام 1577. وحاول الهروب غير مرة. ولكنه لم يجن من محاولاته غير تشديد النكير عليه. وصرح الداي وهوالحاكم المحلي، بأنه »إذا استطاع حتى يؤمن حراسة ذلك الأسباني المعطوب الذراع فقد أمن عاصمته وعبيده وسفنه (17)« وكافحت أمه لتجمع الخمسمائة كراون التي طولب بها للافراج عنه، وضحت أخواته بمهورهن في هذا السبيل، وأخيرا (في 19 سبتمبر 1580) أفرج عنه، وبعد رحلة مضنية لحق بأسرة أمه في مدريد.

كان مملقاً عاجزاً، لذلك لم يكن أمامه من سبيل الرزق غير العودة إلى الانخراط في الجيش. وهناك من الدلائل ما يشير إلى أنه مارس الخدمة العسكرية في البرتغال والأزوره. وسقط في غرام سيدة نبيلة تصغره بثمانية عشر عاما ولا تملك غير أسمائها الكثيرة: كاتالينا دي بالاكيوسالازار إي فوزميديانوالإسكيفية. وتحت الحاح الحب والفاقة خط سرفانتس رواية رعوية تسمى »غلاطية« باعها بمبلغ 1.336 ريالا (668 دولارا؟). وتزوجته السدة الآن (1584)، فقدم إليها ابنة غير شرعية وأقنعها بأن تربيها كأنها ابنتها، وكانت قد ولدتها له حسناء عابرة قبل سنة(18). أما كاتالينا نفسها فلم تنجب. وكانت تعنفه بانتظام على فقره، ولكنها ظلت وفية له فيما يبدو، وعمرت بعده، وحين ماتت طلبت ان تدفن إلى جواره.

ولم تأت غلاطية بمزيد من الريالات؛ كان رعاتها مسرفين في بلاغتهم. إلا حين ينطقون بالشعر، ومع حتى سرفانتس كان ينوي كتابة بقية لها، ومع أنه ظل إلى النهاية يعتبرها اروع ما خط، فإنه لم يجد قط الوقت أوالحافز لاتمامه. ثم جرب كتابة التمثيليات طوال خمسة وعشرين عاما، فألف نحوثلاثين منها، وكان رأيه أنها ممتازة، وهويؤكد لنا أنها »مثلت كلها دون ان يعرض عليه أي جزاء(19)« ولكن واحدة منها لم تستهوالجماهير أوتلمس عرقا من مضى. لذلك ارتضى وظيفة متواضعة في إدارة تموين الجيش والبحرية (1587)، وسافر بصفته هذه إلى عشرات المدن تاركا زوجته في البيت. وقد ساعد في تموين الأرمادا الجبار. وفي عام 1594 عين جابياً لغرناطة. وسجن في أشبيلية لمخالفات في حساباته، وأفرج عنه بعد شهور ثلاثة، ولكنه طرد من خدمة الحكومية. ومكث عدة سنين في فقر مدقع بأشبيلية وهويحاول الارتزاق من قلمه. ثم قبض عليه مرة أخرى في أرجا ماريللا وهويجوب أسبانيا. وتقول الرواية أنه في سجنه وفي بؤسه واصل تأليف كتاب من أكثر الخط مرحا في العالم. فلما عاد إلى مدريد باع لفرانسسكودي روبلز مخطوطة »حياة ومغامرات دون كخوته دي لامانشا الأشهر« فنشرت عام 1605. إلى غير ذلك، وبعد ثمانية وخمسين عاما من الكفاح، بلغ سرفانتس شاطئ التوفيق.

ورحب جميع الناس- عدا النقاد- بالكتاب مهرجانا من الفكاهة والفلسفة. وتقول رواية قديمة ان فيلب الثالث »لاحظ وهوواقف يوما بشرفة قصره في مدريد طالبا بيده كتاب على ضفة مانزاناريس اللقاءة. وكان الطالب يقرأ، ولكنه بين الحين والحين كان يبتر قراءته ويلطم جبينه لطمات عنيفة تصحبها حركات لا حصر لها من النشوة والطرب. ونطق الملك »إن الطالب إما انقد يكون مجنوناً وإما إنه يقرأ... دون كخوته(20)«.

إن في هذه الصفحات الثمانمائة مآخذ كما في جميع رائعة- فحبكة الرواية ليست غاية في البراعة- سلسلة من الأحداث المترابطة. تكشفها حكايات مقحمة غير متصلة بالموضوع، خلومن الخطة خلوالفارس الذي »يواصل سفره على ظهر جواده مرخيا له العنان ليمضي حيث شاء«. وبعض خيوط الحبكة متروك عند أطراف مفكوكة أوشديدة التعقيد، مثل ضياع حمار سانشو، وظهوره ثانية دون تعليل. ويصبح السرد بين الحين والحين مملا، والنحوغير دقيق، واللغة مفتقرة إلى الصقل. ويقول الجغرافيون إذا جغرافية الرواية محالة. ولكن ما اهمية هذا كله،يا ترى؟ فحدثا مضينا في القراءة مشدودين بجذب لطيف خلال المعقول وغير المعقول، ازداد عجبنا من حتى سرفانتيس استطاع وسط جميع شدائده حتى يجمع معا مثل هذا المشهد العريض من المثالية والظرف وأن يقرب قطبي الخلق الإنساني المتباعدين في مثل هذا التراكب المنير. أما الأسلوب فهوما ينبغي حتىقد يكون عليه أسلوب سيرة طويلة-لا سيل مرهق من البلاغة، ولكن جدول صاف جار، يتألق هنا وهناك بعبارة حلوة، كقوله »كان له وجه كالبركة(21)« وأما القدرة على اختراع الأحداث فتمضي إلى النهاية، واما معين أمثال سانشوفلا ينضب، وآخر بترة من الفكاهة اوالتفجع لا تقل جمالاً عن أولها. هنا، في هذا »التاريخ الجاد أعظم الجد، المجلجل، الدقيق، الناعم، الفكه« على حد قول سرفانتيس، نلتقي بحياة أسبانيا وشعبها، موصوفين بحب يبقى بعد حتى ينقضي عدم التحيز، وبمئات التفاصيل الصغيرة التي تخلق هذا الكل الملهم، وتفعمه بالحياة.

ويلجأ سرفانتس إلى حيلة قديمة فيزعم لنا حتى »تاريخه« مأخوذ عن مخطوطة لمؤلف عربي سماه السيد حامد بن أنجلي. وتفصح المقدمة عن هدفه، وهوحتى يصف في »هجوللفروسية الجوابة... سقوط ودمار ذلك الكوم البشع من روايات الفروسية... التي افتتن به أكثر الناس على نحوعجيب«. وقد عمل تشوسر مثل هذا في حكايات كنتربري (»شعر السر توباس«)، ورايليه في »جرجانتوا«، وبولتشي في »المورجانتي مادجوري«، وهزأ تيوفيلوفولنجووغيره من شعراء التخليط بين اللاتينية واللغة القومية بالفرسان، وسخر أريوستوفي أورلندوفوريوزو« من أبطاله الرجال والنساء. على حتى سرفانتس لا يرفض روايات الفروسية جملة، فهوينقذ من النار بعضها، ومثل » روايته »غلاطية«ن وهويدخل في قصته بعض مغامرات الفروسية. ونرى في نهاية السيرة حتى هذا الدون الفارس، بعد عشرات الهزائم والضربات المخزية، وهوبطل السيرة الخفي.

وبصوره سرفانتس سيدا ريفيا خصب الخيال، أذهلته القصص التي جمعها في مخطته، فدجج نفسه بالسلاح من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وارتدى سترة الفارس وخرج على فرسه روزاننتي ليذود عن حياض المظلومين ويصلح الفساد ويحمي العذارى والأطفال. أنه يمقت الظلم ويحلم بماض مضىي يوم لم يكن هناك مضى، »يوم كانت هاتان الحدثتان القتالتان »مالي« فوارق مجهولة، جميع الأمور كانت مشهجرة في ذلك العصر المقدس... كله كان تآلفا واتحادا، كله كان حبا وصدقة في الدنيا«(22). وجريا على قواعد الفروسية ثراء يكرس سلاحه، لا بل حياته، لسيدة نبيلة تدعى دولتسينيا ديل توبوزو. ومع حتى عينه لم تقع عليها قط، فقد كان في وسعه ان يتصورها تجسيداً كاملاً للطهارة المحتشمة والجمال الرقيق. »نحرها مرمر، وثدياها رخام، ويداها عاج. والثلج ينكسف بياضه إذا دنا من صدرها«(23) أما وقد ملأه هذا الرخام صلابة، وبعث فيه هذا الثلج دفئا، فهوينطلق ليهاجم عالما حفل بالشرور. وهوفي هذه المعركة غير المتكافئة لا يشعر بأن أعداءه أعز منه نفرا »فأنا وحدي أعدل مائة منهم« وبينما يلازم سرفانتس ذلك »الفارس ذا الوجه البائس« متنقلا بين الفنادق الصغيرة وطواحين الهواء، بين المصارف والقذرة والخنازير المذعورة، تنتهي به الصحبة إلى حبه قديساً كما يحبه مجنوناً، وفي جميع هذه المغامرات الفاشلة والكبوات الأليمة يظل الدون المثال الحي للأدب والعطف والسماحة. وأخيرا يتغير المجذوب على يد خالقه، فيصبح فيلسوفا يتحدث-حتى وهويتردى في الوحل-حديثا عاقلا سويا، ويغفر الإساءات للدنيا التي عجز عن فهمها، ثم يغيظنا من سرفانتس أنه يواصل خبطه وتحطيمه التزاما بخطته المرسومة. ثم نعطف على الفارس الذي ينقشع الوهم عن عينيه حين يؤكد له سانشوإذا الدولتسنيا ديل توبوزوالوحيدة التي تعهدها بلدتها ليست سوى »خادمة متمنطقة«، هي صبية بدينة، مفتولة العضل، مسترجلة، من أصل متواضع. ويجيب الفارس بحكمة مضىية، فيقول لسانشو، »إن الأصل يشرف بالفضيلة، إنما أصل الفتى ما قد حصل«(25).

والشيء الذي يفتقر إليه الدون هوروح الفكاهة، وهوخير جوانب الفلسفة. ومن ثم يعطيه سرفانتس تابعا مرافقا أصله عامل من عمال المدينة الأقوياء، وابن من أبناء الريف، هوسانشوبانزا، ويؤمن الفارس خدماته بأن يعده بالطعام والشراب، ويحكم ولاية في الممالك التي يزمعان فتحها. فأما سانشوفرجل ذوإدراك سهل وشهية طيبة، يظل محتفظا بسمنته إلى آخر صفحة في السيرة برغم إشرافه دائما على الموت جوعا، إنسان كريم النفس يحب بغلته كأنها »نفسه الثانية« ويقدر »عشرتها الحلوة«، حتى ليس الفلاح الأسباني النموذجي، فهوسخي في النكتة زاهد في الوقار، إنما هو-كأي اسباني تحرر من سعار اللاهوت-طيب القلب محب للخير، حكيم دون ثقافة اوتعليم، وفيّ لسيده في دنيا العذاب هذه وسرعان ما ينتهي إلى حتى الدون رجل مجنون، ولكنه هوأيضاً ينتهي إلى حتى يحبه، يقول في ختام السيرة »لقد لازمت مولاي الطيب وصاحبته هذه الشهور الطوال، والآن اصبحنا نحن الاثنين واحداً«(26)، وهذا حق، لأنهما ليسا سوى جانبين لإنسانية واحدة.أما الفارس فينتهي هوأيضاً إلى احترام حكمة تابعة لأنها اعمق جذورا إذا لم تكن نبيلة كحكمته. ويعبر سانشوعن فلسفته بأمثال يقفوبعضها بعضا حتى لتكاد تخنق تفكيره: »إن الدجاجة والمرأة تضيعان إذا سرحتا، »بين قول المرأة نعم وقولها لا، لا أوافق على حتى اضع سن دبوس، فالواحد منهما قريب جداً من الآخر«، إذا الطبيب يبذل نصيحته بجسه نبض جيبك«، »كل إنسان كما صنعه الله، وكثيرا ماقد يكون أسوأ«(27) ولعل سرفانتس استخدم مجموعة مختارة من هذه الأمثال التي عهدها بأنها »عبارات قصيرة صيغت من خبرة طويلة«(28) ويعتذر سانشوعن هذا »الاسهال« في الحكم بأن هذه المأثورات تسد حلقه ولا بد حتى تنطلق، بترتيب ورودها على خاطره. ويستسلم الدون لهذا الفيض الدافق فيقول »حقا، يظهر انك لست أعقل مني... أشهد انك انسان مختلط العقل، إنني اصفح عنك، وقد عملت«(29).

كان للتوفيق الذي أصابته »دون كيخوته« الفضل في ظفر سرفانتس براعيين لأدبه، الكونت ليموس وكردينال طليطلة، أجريا عليه معاشا صغيرا يسر له حتى يعول زوجته، وابنته غير الشرعية، وأخته الأرملة، وابنة أخته. وبعد شهور من نشر كتابه قبض عليه هووكل أفراد أسرته لشبهة اشتراكهم في مقتل جاسباردي ازبليتا على باب بيت سرفانتس. وأرجفت الشائعات بأن جاسبار كان يعشق ابنته، ولكن التحقيق لم يسفر عن شئ، فأفرج عنهم جميعا. ومضى سرفانتس يخط الجزء الثاني من »دون كخوته« في غير عجلة. وفي عام 1613 بتر هذا الجهد المحبب بنشر اثنتي عشرة سيرة »مثالية جديدة« اتى في مقدمتها »لقد وصفت هذه القصص بأنها مثالية، ولوتأملها القارئ لما عثر فيها سيرة لا تعطيه مثالا نافعا«(30). وأولهما سيرة عصابة من اللصوص تعمل في انسجام مثالي مع رئيس شرطة اشبيلية، وسيرة أخرى اسمها »ندوة الكلاب« تصف سلوك تلك المدينة واخلاقها. وفي التمهيد للمجموعة صور سرفانتس نفسه بهذه العبارات: إن الرجل الذي ترونه هنا بمحياه النسري، وشعره الكستنائي، وجبينه الهادئ الطلق، وعينيه اللامعتين، وأنفه المعقوف المتناسب، ولحيته الفضية التي كانت مضىية منذ أقل من عشرين عاما، وشاربه الكبير... واسنانه التي لا تستحق الاحصاء، وقامته الريعة؛ وكتفيه طفيفي الانحناء، وبنيته الثقيلة بعض الشىء... أجيز لنفسي حتى أقول لكم إنه مؤلف »غلاطية« و»دون كخوته دلا مانشا«)31).

ولكنه فوجئ عام 1614 بظهور الجزء الثاني من »دون كخوته«، لا بقلمه، بل بقلم سارق مجهول انتحل اسم »أفيللانيدا«. وقد هزأت المقدمة من جراح سرفانتس، وطربت للحيلة المتقنة التي ستقضي على جزء سرفانتس الثاني. وعجل المحرر المنزعج بانجاز كتابه ونشره عام 1615، وابتهج القراء الأسبان حين وجدوا هذه التتمة ترقي إلى مستوى الجزء الأول خيالا وقوة ومرحا، ففي جميع هذه الصفحات الخمسمائة الجديدة احتفظ المحرر بتشويقه للقارئ حتى النهائية، وهي نهاية حزينة ان لم تكن أليمة، وبدا للبعض حتى حظ الدون وتابعه العاثر في بلاط الدوق، وملك شانسوعلى ولايته، والسيرة المؤلمة التي روى فيها كيف من الممكن أن ضرب عجزه- جميع هذا من شأنه حتى يجعل الجزء الثاني هوالنصف الأفضل. فحين يولي سانشوحاكما على باراتاريا يتسقط الكل منه حتى يتجاوز جميع ما اثر عن الحكام من حماقات. ولكنا نجد على النقيض من ذلك حتى طيبته وفطنته، وأن نظمه واصلاحاته البسيطة العادلة؛ وأن قراره الحكيم في دعوى هتك العرض(32)-كل هذا يخجل واقع الحكم المعاصر له. ولكن قوي البشر الذي لا يعهد رحمة ولا هوادة تطغى عليه؛ وأخيرا ترهقه ارهاقاً يكرهه على التخلي عن منصبه والعودة مرتاحاً إلى حياته تابعا للدون.

ولا يبقى بعد ذلك إلا حتى يهرب الفارس مثل هذا الهرب من دنيا الأحلام إلى دنيا الواقع. إنه يخرج في طلب المغامرات الجديدة، ولكنه يهزم هزيمة عارمة؛ ينتزع المنتصر فيها تعهدا منه بأن يمضي إلى داره ويعيش سنة في هدوء لا شأن به بالفروسية. ويوافق المحارب المتعب، ولكن تبدد أوهامه يجفف ينابيع حياته. فيرسل في طلب أصدقائه إلى جواره، ويوزع الهدايا عليهم؛ ويخط وصيته، وينبذ الفروسية الطوافة الباحثة عن المغامرات، ويدع روحه تنحسر انحسارا شديدا. ويعود سانشوإلى اسرته؛ ويفلح حديقته قانعا قناعة رجل خير من الدنيا ما يكفي ليجعله عارفا بقدر بيته. وفي النهاية يلوح حتى هذه الواقعية الطيبة تنتصر على مثالية مولاء المغرقة في الأوهام برغم سماحتها. ولكن الأمر في حقيقته غير هذا. فروح الفارس هي صاحبة الحدثة الأخيرة في القبرية التي أوصى بأن تخط له. »إذا كنت لم أحقق جلائل الأعمال فإنني مت في سبيلها«. إلى غير ذلك يتبين حتى الواقعي يعيش إلى حتى يدركه الموت؛ ولكن المثالي يبدأ عندها الحياة.

ونشر سرفانتس في السنة التي بقيت له في أجله ثماني تمثيليات، ولم يؤيد الزمن تقديره لها، ولكنه قدر تقديرا عظيما »لانومانسيا«ن وهي قصيدة تمثيلية فيها قوة وفيها جمال، تحي ذكرى مقاومة تلك المدينة الأسبانية للحصار الروماني (133 ق.م). وكان له كفارسه وهمه الذي يسنده؛ فظن حتى الأجيال القادمة ستكرمه أولاً لتمثيلياته، وتحدث في غيرة لا تليق به وإن غفرناها له عن لوبي دي فيجا الذي وفق توفيقاً هائلاً، ثم خط وهويحتضر تقريباً، سيرة أخرى من قصصه بعد حتى هزأ بأكثر الروايات الغرامية »برسيليس وسجموندا«. وقبل حتى يموت بأربعة أيام أهداها إلى كونت ليمور قائلا:

»مسحت بالأمس المسحة المقدسة الأخيرة، واليوم أخط هذا الإهداء، ليس في الوقت متسع، وعذابي يزيد، والآمال تتضاءل... فوداعاً للمزاح إذن، وداعاً فكاهاتي البهيجة، وداعاً أصدقائي المرحين، لأنني أشعر بأنني أموت، ولا أمنية لي إلا حتى أراكم سعداء في الحياة الأخرى(33). ومات في 23 ابريل 1616 .

كان قد تنبأ على طريقته « المميزة حتى كتابه »دون كخوته« سيباع منه ثلاثون مليون نسخة. وابتسم العالم لسذاجته، ثم اقتنى ثلاثين مليونا. لقد ترجمت السيرة العظيمة إلى لغات أكثر من أي كتاب باستثناء الكتاب المقدس. وفي أسبانيا يعهد أبسط القرويين من هودون كخوته، وهوعموما، خارج الكتاب المقدس أيضاً، »أكثر شخوص الأدب كله حياة وفتنة وشهرة(34)«، وأكثر واقعية من ألف فهم من أعلام التاريخ المستكبرين. وقد استطاع سرفانتس، بجعل قصته هذه صورة لآداب السلوك، حتى يرسى أساس الرواية الحديثة، ويفتح الطريق لقصاصين مثل لوساج، وفيلدنج، وسموليت، وستيرن، وحمل هذا اللون الجديد إلى مقام الفلسفة إذ جعله يكشف عن طبائع البشر ويلقي الضوء على ما خفي من أخلاقهم.


المصادر

معلومات إضافية

  • Miguel de Cervantes (Modern Critical Views) / ed. Harold Bloom., 2005
  • Cervantes' Don Quixote: a casebook / ed. Roberto González Echevarría., 2005
  • The Cambridge companion to Cervantes / ed. Anthony J Cascardi., 2002
  • Cervantes's Don Quixote (Modern Critical Interpretations) / ed. Harold Bloom., 2001
  • Critical essays on Cervantes / ed. Ruth S El Saffar., 1986
  • Cervantes; a collection of critical essays / ed. Lowry Nelson., 1969
  • 'Cinco personajes fugaces en el camino de Don Quijote' / autora Giannina Braschi; Cuadernos hispanoamericanos, ISSN 0011-250X, Nº 328, 1977, pags. 101-115.
  • Frederick A. de Armas, Quixotic Frescoes: Cervantes and Italian Renaissance Art Book online

مراجع أونلاين

  • Canavaggio, Jean. "Miguel de Cervantes (1547-1616): Life and Portrait". The Cervantes Project. Retrieved 2007-01-04.
  • Cervantes Saavedra, Miguel de. "E-book of The Exemplary Novels of Cervantes (Translated by Walter K. Kelly)". The Project Gutenberg. Retrieved 2007-01-01.
  • Ormsby, John. "Don Quixote – Translator's Preface – About Cervantes And Don Quixote". The University of Adelaide Library. Retrieved 2007-01-02.
  • "World Book and Copyright Day – April 23, 2006". United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO). Retrieved 2006-10-17.

وصلات خارجية

  • سرفانتس ورائعة دون كيشوت
  • دون كيشوت: المثالي الديماغوجي
  • الفارس دون كيشوت
  • Biblioteca Virtual Miguel de Cervantes Spanish web site with multiple Cervantes links and audio of whole of Don Quixote
  • Famous Hispanics
  • The Cervantes Project with biographies and chronology
  • Information about Miguel de Cervantes
تاريخ النشر: 2020-06-08 01:59:56
التصنيفات: مواليد 1547, وفيات 1616, People from Alcalá de Henares, اسبان كاثوليك, Spanish amputees, قراصنة الساحل البربري, كتاب النهضة, كتاب دراما ومسرحيات إسپان, روائيون إسپان, شعراء إسپان, كتاب كاثوليك, Tax collectors, Don Quixote

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

محمد صلاح أمام مجد شخصي جديد.. وليفربول يخشى رقم كارثي

المصدر: الإمارات اليوم - الإمارات التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:20:59
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 50%

التدريس بـ«ترخيص».. «التعليم» تضع شرطا جديدا للتعيين في المسابقات

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:20:59
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 55%

مدبولي يلتقي نظيره الياباني على هامش قمة «تيكاد 8» في تونس

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:08
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 67%

مصرع مسن تحت عجلات القطار إثر سقوطه في محطة أبو حمص

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:12
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 50%

موعد ظهور نتيجة تقليل الاغتراب 2022.. وآخر موعد لتسجيل الطلبات

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:06
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 51%

بياطرة المغرب يضعون خبرتهم رهن إشارة الداخلية لمواجهة الكلاب الضالة

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:11
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 56%

الأمم المتحدة تدعو إلى وقف فوري للاشتباكات في ليبيا

المصدر: الإمارات اليوم - الإمارات التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:20:58
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 60%

وزيرة التضامن: توفير فصول محو أمية للمتعافين من تعاطى المخدرات

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:00
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 65%

برنامج وخريطة حفلات اليوم بمهرجان القلعة للموسيقى والغناء

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:03
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 54%

وزير التعليم: لن أصرح على «فيسبوك» والاستعانة بمتحدث إعلامي قريبا

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:06
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 53%

الوادي الجديد: زراعة 6 آلاف نخلة بمشروع وقف النخيل بالداخلة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:13
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 54%

‎‎مدبولى: إفريقيا تواجه عددًا من التحديات الاقتصادية شديدة الوطأة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:01
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 67%

نص الحكم على 54 متهمًا في قضية الاستيلاء على المواد البترولية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:18
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 66%

توقعات أحوال الطقس اليوم السبت.. كتل ضبابية أو ضباب محلي

المصدر: تيل كيل عربي - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:10
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 63%

وزير التعليم العالي يتفقد جامعة المنوفية الأهلية الجديدة

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:05
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 54%

أسهل طريقة.. رابط وخطوات تسجيل تقليل الاغتراب 2022

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:07
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 64%

رئيس الدولة ونائبه يعزيان رئيس باكستان بضحايا الفيضانات

المصدر: الإمارات اليوم - الإمارات التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:00
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 68%

حظوظ تأهل منتخب الإمارات للناشئين في كأس العرب بعد التعادل مع فلسطين

المصدر: الإمارات اليوم - الإمارات التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:01
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 69%

متاح.. تردد قناة أون تايم سبورت على النايل سات ON Time Sports

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:20
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 52%

أمام منزله.. مصرع طفل صدمه جرار زراعي أثناء لهوه بالغربية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-08-27 15:21:13
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 63%

تحميل تطبيق المنصة العربية