السرد التوراتي وتاريخ فلسطين، هوكتاب من تأليف توماس ل. طومسون. يضم الكتاب مجموعة من الدراسات أنجزها المؤلف عبر فترة تطوره الفهمي، نشر القسم الأكبر منها في دوريات مختلفة وعمل هنا على تعديل بعضها، وبعضها نشره للمرة الأولى.

عن الكتاب

الأبحاث التوراتية أولنقل مجازًا الأبحاث الكتابية، نسبة إلى كتاب اليهودية والمسيحية المقدس، موضوع على جانب كبير من التعقيد، والعمل فيه جديًا وإبداعيًا يشترط فهم المحرر فهم عميقة بتاريخ المشرق العربي القديم وممالكه وتاريخ الإغريق والرومان في المنطقة، إضافة إلى لغات تلك الممالك وما يرتبط بالموضوع من معارف فهمية مثل فهمي الآثار والطبوغرافيا وما إلى ذلك، وهذا ما يجعل عدد فهماء التوراة محدودا للغاية، وقصر البحث فيه على حلقة صغيرة من الفهماء الذين تمكنوا من تمرير تحليلاتهم التي أثبتت التنقيبات الأثرية اللاحقة خطأها.

مقدمة الكتاب خطها العالم الإنگليزي الكبير فليپ ديڤز صاحب الكثير من المؤلفات وكذلك الموضوعات عن هذا الموضوع والتي نشرها في الدوريات المتخصصة، وكان أكثرها إثارة للجدل رأيه بأن التوراة خطت في القرن الثاني قبل الميلاد على أبعد تقدير، وأن ما يعهد باسم نقش حزقيا الموجود حاليًا في متحف بإسطنبول يعود إلى الفترة الهيلنستية من تاريخ فلسطين، أي إلى الفترة ذاتها وليس إلى القرن السابع قبل الميلاد.

المؤلف بدوره يشكك في محتوى الكثير من النقوش التي يحلولبعض فهماء التوراة التقليديين عدها إثباتات على صحة مقاربتهم للنصوص، ومن ذلك على سبيل المثال نقش ميشع، ويحسم بأنه نص نادىئي وليس تاريخيًا، ولم يكن قصد محرره سوى الترويج لملكهم لا غير، فهمًا بأنه ساد رأي عند اكتشافه بأن بدوشرقي فلسطين -أي ما عهد باسم عبر الأردن، أوشرق الأردن- زوّروه!!

نظرًا لتشعب موضوعات الكتاب الموزعة على 19 منطقة، فإن مقدمة فيليب ديفس الذي لا يتفق بالضرورة مع جميع أطروحات المؤلف، تعد أساسا لأنه يشرح فيها بلغة سهلة مبسطة، كتابات طومسون وتطورها، ومواقف فهماء التوراة منها، وما وصلت إليه الأبحاث النظرية والتطبيقية بالخصوص.

وهويلفت انتباه القارئ إلى حتى طومسون لا يتعامل مع النصوص التوراتية بوصفها نصوصا تاريخية، وإنما بوصفها نصوصًا أدبية تعبر عن شوق روحي أكثر من أي أمر آخر، وأن التاريخ فيها عندما يحضر، وجب النظر إليه من منظور مختلف عن السائد، ويقدم أسبابا إضافية إلى رأي محرر المقدمة.

في الوقت نفسه فإنه يشدد على حتى كتاب طومسون الأكثر شهرة فضح المشاكل الكبيرة التي تحيط بالأبحاث التوراتية التقليدية وقدم رؤى بديلة لها. نقول هذا ونذكر حتى هذا الفهم معروف بصفته عش الأفاعي أوعش العقارب، لأن أي خطأ يرتكبه الباحث يعد قاتلاً وينهي علاقته بالمادة والأبحاث.

وفي مقدمة ذلك حتى المؤلف وزملاءه من كبار الفهماء مثل كيث وايتلام صاحب كتاب "تلفيق إسرائيل التوراتي"، و"طمس التاريخ الفلسطيني"، وكتابه الجديد "إيقاعات الزمن.. إعادة ربط تاريخ فلسطين" الذي صدر للتو، وفيليب ديفس ونيلز لمكه وفان سيترز وغيرهم، خصوصًا ممن عملوا في هذا الموضوع مطلع القرن الماضي وكانوا متحررين من هيمنة الخطاب التقليدي.. حسموا بأن التوراة ليست تاريخًا، وأن أقساما كثيرة منها منتحل من حضارات الشرق العتيقة ومن الفلسفة الإغريقية والهلنستية، وأن الأبحاث الأثرية في مختلف بقاع المشرق العربي تثبت صحة هذا الرأي. وتوماس طومسون يقدم الأدلة الفهمية التي تدعم اجتهاداته، وفي الوقت نفسه ينقض صحة الآراء المخالفة.

من منظور المؤلف فإن مختلف الأسفار والقصص والمصطلحات التي ناقشها في كتابه نصوص روحية ونصوص ميثولوجيا وليست تاريخًا. لكن محرر المقدمة يقول إذا الحسم في هذا الأمر يحتاج شرح مسببات الابتعاد عن أطروحات طومسون وما البديل لما خطه. بحدثات أخرى، إذا تمسك فهماء التوراة أوفهماء الكتاب بنظرتهم التاريخية، فإن آراء طومسون التي طورها عبر عدد كبير من الأبحاث تجبرهم على النظر إلى آرائهم في تاريخية النصوص من منظور آخر.

أما طومسون فلا يهاب الخوض في موضوعات تعد في افترض البعض من المحرمات، ونعني بذلك السياسة ودور كيان العدوفي تحوير التاريخ وتزويره لصالح روايته الصهيونية، حيث يعمل على تغيير أسماء مواقع في فلسطين ضارب عمقها في التاريخ القديم لتسويغ احتلاله أرض فلسطين، والوحي بأن كيانه استمرار لمملكتي بني إسرائيل، وأن مدينة القدس كانت المركز الروحي لليهودية.

بل إنه يجزم بأن مواقع أخرى في مختلف بطاح المشرق العربي كانت ذات أهمية روحية تفوق تلك التي يفرضها العدوالصهيوني على القدس، ومنها على سبيل المثال عَرَق الأمير في شرق الأردن وجزيرة الفيلة في صعيد مصر ومدينة تل المقدم أيضًا في مصر التي عهدت قديمًا باسم ليونتوبوليس. ويمكن إضافة مواقع جغرافية عديدة أخرى إلى القائمة، ومنها الدامور الواقعة جنوب العاصمة اللبنانية.

وهذا التزوير المسيس لتاريخ فلسطين هوما جعل المؤلف يخصص قسمًا من كتابه للمادة بعنوان "نظرة صهيونية للماضي" حيث عراه، وربط ذلك كله بالتطهير العرقي الذي مارسته الدولة الصهيونية بحق أهل البلاد، وكل الممارسات العنصرية ذات العلاقة، حيث يحاول العدوالصهيوني خلق تاريخ حديث يمنح كيانه شرعية تاريخية دينية.

الآن وجب التشديد على وجود أخطاء في ترجمة تعريفات عربية محددة ذات علاقة بالمادة، وهي مهمة لفهم الكتاب ومحتواه والأفكار المرتبطة بالمادة. فكافة اللغات اللاتينية تميز الديانة اليهودية بين مزدوجتين، واليهود، فهمًا بأنه يوجد أكثر من يهود!

اسم الديانة في الإنگليزية على سبيل المثال "judaism" وهومنسوب إلى مملكة يهوذا التي لم يعثر على أثر لها في فلسطين، وإن حوَت نقوش آشورية أسماء قليلة تشبه ما ورد في التوراة. أما اليهود (jews) فحدثة فرنسية الأصل ولا علاقة بين الاسمين أوالمصطلحين.

ومن المهم التشديد على حقيقة حتى اليهودية ديانة تقوم على لامركزية التعبد، وهي اتجاه نشأ في القرن الثاني الميلادي في مدينة يبنة الفلسطينية المحتلة على يد الفريسيين الذين شكلوا إحدى طوائف في ديانة أطلق عليها فهماء مطلق القرن الماضي المؤسسون لهذا التهذيب الفهمي، اسم "اليَهْوِيَّة"، نسبة إلى إله التوراة يَهْوَه. رغم طبيعته المجالية، وآراء مؤلفه العالِم الإشكالية أحيانًا، يبقى هذا الكتاب إسهاما مهما في كشف آراء سياسية وفكرية تدثرت بالفهم لمنح انادىءاتها شرعية منعتها عنها الحقائق التاريخية العنيدة.

ويا ليت العرب يلتفتون إلى هذا التهذيب الفهمي ودراسته والإسهام فيه فهميًا، ذلك أنه يمس تاريخنا وبلادنا، ومرتبط وثيق الارتباط بمستقبل بلادنا التي تعد -من منظور الرأي السائد في الدراسات التوراتية- أرض التوراة لا أكثر.

فالكتّاب العرب رغم جميع ما نشره بعضهم، أبعد ماقد يكونون عن امتلاك المعارف الفهمية التي تؤهلهم الخوض في هذا الموضوع الشائك والخطير، وكتاباتهم في هذا المجال الفهمي تظل مجردة من أي منهجية فهمية، وأي انادىء مغاير غير سليم. وليتنا ندرك أنه ثمة تخصصات في الأبحاث الفهمية وأنها لا تخضع لرأي معجب أورافض، وأن تقويم أي عمل يجب حتىقد يكون صادرًا من أهل الاختصاص، ووحدهم فقط.

نقد

صاحب هذا الكتاب توماس طومسون عهده عالم البحث الفهمي في تاريخ فلسطين القديمة وبالتالي الأبحاث التوراتية قبل نحوعشرين عامًا، عندما نشر كتابه الحديث "تاريخ بني إسرائيل اعتمادًا على المصادر المكتوبة والأثرية" الذي أثار عاصفة في ذلك المجال الفهمي، لأنه طرح فيه آراء تجديدية بمقياس ذلك الزمن، ومنها رفض النظرة التقليدية التي تعتمد كتاب اليهودية والمسيحية المقدس، مرجعًا تاريخيًا.

سبب العاصفة لم يكن الآراء بحد ذاتها فقط، وإنما أيضًا أنها أتت من داخل الوسط الفهمي نفسه، وهوما يعد في نظر حراس الهيكل -إن صح التعبير- تمردًا وتطاولاً على الخطاب الرسمي المعتمد الذي يؤهل شخصا ما للحديث في المادة.

يُذكر حتى ذلك العالم الكبير فقدَ منصبه التدريسي في الجامعة الأميركية التي كان يعمل بها واضطر لمغادرة بلاده، وحطت به الرحال في الدانمارك حيث بدأ التدريس في كلية اللاهوت بجامعة كوبنهاغن إلى الآن، واستمر في نشر آرائه الحداثية.

المصادر