العقل قبل الهوية

عودة للموسوعة

العقل قبل الهوية

في الوقت الذي رأى فيه كثيرون حتى هجمات 11 سبتمبر/أيلول تحمل إثباتاً لوجهة النظر القائلة بوجود "صدام للحضارات", تقدم القراءة الممحصة لكتاب أمارتيا سن "العقل قبل الهوية" نظرة تبعث على الارتياح إلى النزاعات القائمة على الدوام بين الجماعات الإنسانية ذات الهويات المتنوعة.

وأمارتيا سن -الهندي الأصل- عالم اقتصاد حاصل على جائزة نوبل وبروفسور في كلية الملك في جامعة كمبردج، وله نظريات وخط ومساهمات رقته إلى مصاف الدرجة الأولى من اقتصادي ومنظري العلوم الاجتماعية في عالم اليوم. وكان قد اشتهر بنظريته "التنمية كحرية" (development as freedom), وفيه يتناول التنمية في دول العالم الثالث وكيفية النظر إليها باعتبارها إطاراً عاماً للانفلات من التخلف ليس فقط الاقتصادي بل السياسي والثقافي.


غلاف الكتاب -اسم الكتاب: العقل قبل الهوية -المؤلف:أمارتيا سن -عدد الصفحات: 313 -الطبعة: الأولى 2002 -الناشر: Oxford: Oxford University Press

أما كتابه الذي بين يدينا هنا فهوعلى قدر مواز من الاهمية, وهوأصلاً النسخة المطبوعة لمحاضرة مطولة ألقاها في جامعة أوكسفورد وفيه يخرج سن عن تناول الموضوع الاقتصادي بجفافه وملله, متناولاً من وجهة نظر فلسفية وتنموية موضوعات الهويات الاجتماعية -دورها ومضامينها- وأولوية الاختيار الفردي والعقل.

ورغم حتى مادة الكتاب موجزة فهوليس سوى نص لمحاضرة مطولة واحدة, وأن نصها الأصلي موجه بالدرجة الأساس لجمهور من الدارسين المتخصصين, إلا أنها مع ذلك غنية بالأفكار والرؤى المثيرة والعميقة الصادرة عن إنسان بمستوى أمارتيا سن, مهموم بقضايا الفقر والتنمية وردم الفجوة بين المجتمعات الفقيرة والغنية.

يخط أمارتيا سن باختزال وأكاديمية ليس فيها إطناب وحشو, وينجح في تسهيل المادة المعقدة التي يشرحها للقارئ عن طريق جعل الاستدلال حول معاني التعابير المتخصصة ممكناً من خلال المضمون العام للنص, ويعمد أحياناً إلى توضيح هذه التعابير على نحومختصر ومحدد. ومما لا ريب فيه حتى النص يحمل صبغة أكاديمية ظاهرة تضم تعابير متخصصة وجملا متشابكة تحمل فهماً مركباً. لكن المحاججات التي يقدمها ويدافع عنها تقود إلى نتيجة نهائية, بعيدة عن الشعاراتية أوالجمل الطنانة.

” الأفراد قادرون على ممارسة طرق أخرى من التفكير خارج حدود المواقف الحضارية الأساسية المتجذرة في الجماعة التي ينتمون إليها. بل حتى ضمن المنظومة الحضارية الواحدة يوجد عادة طيف واسع من المواقف والمعتقدات, يسمح بالاختيار ويتداخل احياناً مع مواقف ومعتقدات الآخرين ”

السوق والجشع الرأسمالي

يبدأ الكتاب بكشف زيف الاعتقاد القائل بأن الجشع الرأسمالي هوالمادة الخام الوحيدة لأية آلية ناجحة وكفوءة من آليات السوق -وهي الفكرة التي تنسب خطأ إلى الفيلسوف آدم سميث من القرن الثامن عشر- وتقول نظرية سميث -الذي أسيء فهمه بشكل جماعي كما يقول سن- بأنك لا بحاجة إلى العودة إلى أي شيء آخر سوى المصلحة الذاتية لكي تفهم السبب الذي يجعل الكائنات البشرية تسعى إلى تحقيق تبادلات مثمرة فيما بينها وفي أي مجتمع كان.. أي حتى الدافع الذاتي والرغبة في تحقيق الربح وتحسين الوضع الفردي هوالمحفز الأصلي والحقيقي لكل ما يمكن حتى نراه من نشاط اقتصادي وتبادلي بين البشر.

غير حتى سوء الفهم الذي لازم نظرية سميث يكمن في أنه هونفسه لم يشر أبداً إلى حتى المصلحة الذاتية كافية لضمان عمل السوق على نحوناجح. وهنا يجادل سن, بأنه من دون مجموعة لائقة من الأفكار الاجتماعية مثل المسؤولية والجدارة والثقة لا يمكن لأي سوق حتى تعمل بطريقة فعالة, سواء توفر عنصر الجشع أم لم يتوفر. فلئن كانت المصلحة الذاتية تتجسد في سلوك الفرد وقد تفسر جزءاً من السلوك في السوق وفي أي مكان آخر, إلا أنها تقوم بذلك على نحوقاصر. يطرح المؤلف -بعد ذلك- احتمال حتى تلعب الهوية الاجتماعية دوراً مهماً في تشكيل السلوك الإنساني.

وبهذه التأكيدات فإن سن يخرج من إطار التحليل الاقتصادي النيوليبرالي (أصولية السوق) التي تنظر للسوق الحر وتعتبر حتى إطلاق عناصر "الجشع" من دون تحديدات هي التي تضمن اشتغال السوق بطريقة ناجعة وفعالة ومفيدة للمجتمع.


العدالة كإنصاف

يتناول أحد أقسام الكتاب الأولى, الذي يحمل عنوان "العدالة والنقد الجماعي", فكرة "العدالة كإنصاف" التي اتى بها جون راول, عالم الاجتماع الأميركي الشهير, ويؤيده سن ويفند حجج منتقديه الذين يبنون مواقفهم على أساس الهوية. ورغم حتى هذا القسم يبتعد -إلى حد ما- عن موضوعة سن المركزية حول أهمية الاختيار والعقل في تقرير المرء لهويته, فإن أهميته تكمن في الجدل الذي يديره سن حول أهمية وفعالية وسيلة راول القائمة على "المسقط الأصلي" (original position) -وهوحالة متخيلة للمساواة بين أفراد جماعة إنسانية (متحررة من أية مصالح) يتصدون لاختيار القواعد الاجتماعية التي تحكم سلوكهم. هذه القواعد, التي يطلق عليها راول اسم "مبادئ العدالة" يفترض أن تميل, عندها, إلى الاهتمام بشكل متساوٍ بمصلحة جميع فرد من الأفراد وبهمومه وحدود تصرفه، مما يقود إلى معاملة متساوية لجميع الأفراد داخل المجتمع.

ويرى سن حتى مثل هذا المنهج قادر على حتى يضم -كمبدأ من مبادئ العدالة- ذلك النوع من التضامن الجمعي الذي يزعم بعض النقاد أنه -رغم كونه ضرورياً- مايزال غائباً عن إطار طرح راول. ويبدولنا هنا سن مهموماً بفكرة العدالة: عدالة التوزيع والتعاون مع الثروات المجتمعية بشكل يتيح أكبر قدر ممكن من المساواة القائمة على "المسقط الأصلي" للأفراد في مجتمعاتهم بصفتهم أفرادا أولاً وقبل جميع شيء.

الهوية اختيار فردي

وفي قضية الهوية يبدع سن في طرحه المنطقي والمقنع القائل بأن الأفراد يتمتعون -بشكل واعٍ أوغير واعٍ- بحرية الاختيار في مجال تحديد هوياتهم الاجتماعية. ويرى سن حتى أحد الأدوار المهمة للهوية الاجتماعية هو"التوصيف" -تخصيص الجماعات المتنوعة بهويات خاصة بها- وهوأمر يسمح -بالطبع- بالاختيار وبحاجة الفرد إلى استخدام العقل, حيث يمكن للشخص حتى يمتلك هويات مشهجرة مع أكثر من واحدة من تلك الجماعات الموصفة, ويكون عليه أحياناً حتى يختار من بين مجموعة من الهويات البديلة أوالمتناحرة.

وبالتالي فإن سن -القادم من الهند والبريطاني الجنسية- المنشغل بهموم عالمثالثية, والمحاضر في أرقى جامعات العالم الأول, والمتعدد الهويات, يبحث عن صيغة تتصالح فيها الهويات التي تبدومتناقضة.

” إن أحد الأدوار المهمة للهوية الاجتماعية هو"التوصيف" وهوأمر يسمح بالاختيار وبحاجة الفرد إلى استخدام العقل, حيث يمكن للشخص حتى يمتلك هويات مشهجرة مع أكثر من واحدة من تلك الجماعات الموصفة ”

غير حتى إشكال الهوية, واختيارها, كما الإشكالات الأخرى ذات الوزن الثقيل لا تقع في دائرة القرار الفردي فحسب، والسؤال الذي يطرحه ويتناوله سن إزاء هذه النقطة هو: ألا يشكل المجتمع ككل مؤثراً كبيراً على تفكير الفرد, وألا يحد هذا من قدرة الفرد على الاختيار،يا ترى؟ ولتناول الأجابة يرجع إلى "الوظيفة الإدراكية" للهوية الاجتماعية، وهي الكيفية التي يمكن لأفراد الجماعة بواسطتها إدراك العالم, والتوصل الى أحكام عقلانية, والتأثير على بعضهم البعض. وفي نهاية المطاف يمكن لعقل الفرد حتى يتأثر بالأفكار الاجتماعية الخاصة بالجماعة, لكن هذا لا يقيد المرء بالتفكير "فقط ضمن عهد حضاري محدد, ذي هوية محددة". فالأفراد قادرون على ممارسة طرق أخرى من التفكير خارج حدود المواقف الحضارية الأساسية المتجذرة في الجماعة التي ينتمون إليها. بل حتى ضمن المنظومة الحضارية الواحدة يوجد عادة طيف واسع من المواقف والمعتقدات, يسمح بالاختيار ويتداخل أحياناً مع مواقف ومعتقدات الآخرين. ومن هنا, تظل الاختيارات قائمة رغم وجود المؤثرات الحضارية, وهوأمر يؤكد عليه سن تاركاً كوة من الأمل والباب المفتوح لنظرية الهويات المتصالحة والاختيارية.

الهوية ليست مكتشفة

بناء على ذلك, يرفض سن الرأي القائل بـ "اكتشاف" الهويات الاجتماعية, وهوالرأي الذي يؤكد حتى الأفراد لا يختارون هوياتهم الخاصة إنما يكتشفونها فقط كجانب من جوانب تحقيق الذات. ويعزز المؤلف وجهة نظره بالحقيقة التي تفيد بأن الاختيار يمكن حتى يقع -وهويقع بالعمل- حتى بعد حصول "الاكتشاف". ويمضي قدماً ليجادل بأن إنكار الاختيار عندماقد يكون الاختيار موجوداً, ورفض ممارسة التفكير يمكن حتى يقود إلى التسليم غير المشروط بالظلم والاجحاف وسلوك القطيع. فلوكان الخضوع للأعراف هوالقانون الساري على السلوك لما ظهرت إلى يومنا هذا حقوق المرأة -على سبيل المثال لا الحصر- كتعبير ناهيك عنها كحقيقة ماثلة. ويحذر سن من العواقب المظلمة لسلوك القطيع كما شاهدها بنفسه عندما كان صبياً في الهند في أربعينات القرن الماضي, عندما اندلع العنف الطائفي بين المسلمين والهندوس في أعقاب نزاعات سياسية.

إن قدرة المرء على التفكير خارج منظومته الحضارية وحريته في القيام بذلك, إلى جانب قدرته على الاستفادة من التنوع المتاح داخل ذلك النظام, تشكل موضوعاً مركزياً يعود له سن في نهاية الكتاب. ففي الوقت الذي ينظر فيه بشكل عام إلى "إنصاف" راول على أنه أمر قابل للتطبيق على جميع دولة بشكل منفصل, يطرح سن سؤاله عن الكيفية التي ينبغي بها الأخذ بنظر الاعتبار الهويات المشهجرة عبر الحدود الوطنية للدول, هويات مثل الطبقة, أوالجنوسة, أوالمعتقدات السياسية والاجتماعية.

” الأفراد يتمتعون, بشكل واعٍ أوغير واعٍ, بحرية الاختيار في مجال تحديد هوياتهم الاجتماعية ”

ويمكن اعتبار هذا السؤال النقطة الحيوية في الجدل المعاصر حول حقوق الإنسان: هل هناك شيء اسمه القيم الكونية? ويبدوهنا حتى البروفسور يعتقد حتى الجواب هونعم. فإذا كان بوسع المرء حتى يتقبل وجود مجال للاختيار وحرية في التفكير عند تقرير المرء لهويته, فإن جميع الحدود عندها -جغرافية كانت أم حضارية- تكف عن لعب ذلك الدور المصيري الذي غالباً ما يعمي الجنس البشري ويفسده.

سليم حتى هذا الكتاب ليس من النوع الذي يمكن حتى يختاره المرء للقراءة قبل النوم, إذ يحتاج إلى هجريز وصفاء ذهن, لكن يبقى ان محاججات سن الأكاديمية تظل مفهومة وتمتلك قدرة كبيرة على إثارة الفكر حول موضوع شيق مثل "العقل قبل الهوية", وهي صادرة عن عالم مرموق أفنى عمره في استنطاق النظريات الاقتصادية كي تصبح التنمية بوابة حرية للشعوب الفقيرة والمضطهدة.

المصادر

  • كامبردج بوك ريفيو. "العقل قبل الهوية". قناة الجزيرة.
تاريخ النشر: 2020-06-04 10:25:05
التصنيفات: كتب 2002

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

أكاديميون في ملتقى وطني بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 03:26:07
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 70%

ستة قادة أفارقة سيزورون روسيا وأوكرانيا لبحث خطة سلام محتملة

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 06:16:25
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 91%

الهدف الحقيقي من جولة زيلينسكي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 06:16:54
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 99%

منها النحام وأبو ملعقة

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 03:27:05
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 56%

الاقتصاد الياباني يتجاوز التوقعات وينمو في الربع الأول بنسبة 0.4%

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 06:16:30
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 85%

جمعية الخروب (0) - وفاق سور الغزلان (2): أجـواء نهـــاية موســــــم !

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 03:26:35
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 50%

آسيا الوسطى وثنائية القطب الجديدة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 06:16:55
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 89%

وزير الدفاع الأميركي: تصدّي أوكرانيا للغزو الروسي درس لتايوان

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 06:16:30
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 89%

هل ترامب مستعد لبيع أوكرانيا؟

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 06:16:52
مستوى الصحة: 87% الأهمية: 92%

لقجع خارج الحسابات: شبـاب قسنطينة لتعزيز الوصافة

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 03:26:22
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 63%

"صانع الملوك" في تركيا: قد أدعم أردوغان

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 06:17:10
مستوى الصحة: 95% الأهمية: 92%

مُدرب وفاق سطيف بلال دزيري للنصر: التحكم في الأعصاب مفتاح الفوز

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 03:26:28
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 56%

الرابطة المحترفة: السنافر والوفاق للاقتراب من التذكرة القارية

المصدر: جريدة النصر - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-05-17 03:26:16
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 51%

تحميل تطبيق المنصة العربية