عصر التنوير الألماني

عودة للموسوعة

عصر التنوير الألماني

فناء الملهمات في ڤايمار يبين أهمية ڤايمار. شيلر يقرأ؛ في أقصى اليسار (جالسين)، ڤيلاند وهردر، گوته يقف إلى اليمين أمام العمود. لوحة من سنة 1860 بريشة ثيوبالد فون أور.

عصر التنوير الألماني

ولكن ليس بكل معنى العبارة فالتعليم، باستثناء الإمارات الكنسية، كان قد انتقل من سيطرة الكنيسة إلى سيطرة الدولة. فأساتذة الجامعات تعينهم الحكومة وتدفع رواتبهم (في تقتير مخجل)، ولهم وضع الموظفين العموميين. ومع حتى جميع المدرسين والطلاب كان يشترط عليهم الإقرار بأنهم يدينون بممضى الأمير، إلا حتى الكليات الجامعية، حتى سنة 1789، كانت تتمتع بقدر متزايد من الحرية الأكاديمية. وحلت الألمانية محل اللاتينية لغة للتعليم. وكثرت المقررات الدراسية في العلوم والفلسفة، وتوسع في تعريف الفلسفة (في جامعة كونجزبرج على عهد كانط) بأنها "القدرة على التفكير، وعلى البحث في طبيعة الأمور دون تغرضات أوممضىية"(50). وقد طلب كارل فون تسيدلتس وزير التربية المخلص في عهد فردريك الأكبر، إلى كانط حتى يقترح طرقاً "لصد الطلاب في الجامعات عن دراسات "أكل العيش"، وإفهامهم حتى القليل الذي يتفهمونه من القانون، لا بل اللاهوت والطب، سيكون أيسر استيعاباً وآمن تطبيقاً لوملكوا ناصية الفهم الفلسفية"(51).

وقد حصل الكثير من فقراء الطلاب على معونة حكومية أوأهلية لمواصلة التعليم الجامعي، وإنها لسيرة مبهجة تلك التي روي فيها إكرامان كيف من الممكن أن كان جيرانه الرحماء يمدون إليه يد المعونة في جميع خطوة من خطى تطوره(52). ولم يكن بين جماعة الطلاب تفرقة طبقية(53). فكل خريج يسمح له بأن يحاضر تحت رعاية الجامعة لقاء أي رسم يستطيع جمعه من المستمعين، وقد بدأ كانط حياته المنهنية على هذا النحو؛ وكانت منافسة المفهمين الجدد لقداماهم تحفز هؤلاء على حتىقد يكونوا مستعدين في جميع لحظة. وقد حكمت مدام دستال على الجامعات الألمانية الأربع والعشرين بأنها "أرقى الجامعات فهماً في أوربا. فليس في أي قطر، ولا حتى في إنجلترة، وسائل بهذه الكثرة للتعليم أوللارتقاء بقدرات الإنسان إلى الكمال... ومنذ عصر الإصلاح البروتستنتي تفوقت الجامعات البروتستنتية على الكاثوليكية تفوقاً لا جدال فيه، ويرتكز مجد ألمانيا الأدبي وفخرها على هذه المعاهد"(54).

وانتشر الإصلاح التعليمي وشاع في الجو. فأصدر يوهان بازدوا-مستلهماً قراءته لروسو- في 1774 كتاباً من أربعة مجلدات عنوانه "المبادئ" رسم مخططاً لتعليم الأطفال بطريق الفهم المباشرة بالطبيعة؛ فيجب حتى يكتسبوا الصحة والعافية بالألعاب والتمرينات الرياضية؛ وأن يتلقوا الكثير من تعليمهم في الهواء الطلق بدلاً من حتى يلزموا ممحررهم؛ وأن يتفهموا اللغات لا بالأجرومية والصم بل بتسمية الأمور والأفعال التي يصادفونها في خبراتهم اليومية؛ وأن يتفهموا الأخلاق بتأليف جماعاتهم وتنظيمها؛ وأن يتهيأوا للحياة بتفهم حرفة ما. والدين يدخل في المنهج لا بالصورة القديمة الغالبة؛ وكان بازدويتشكك في عقيدة التثليث جهاراً(55) وأنشأ في دساو(1774) معهداً خيرياً نموذجياً أخرج تلاميذ، صدمت الكبار "وقاحتهم، وسلاطتهم، وسعة فهمهم وخيالهم"(56)، ولكن هذا "التعليم التقدمي"، كان متسقاً مع حركة التنوير، فانتشر سريعاً في طول ألمانيا وعرضها.

وكانت التجارب في مضمار التعليم جزءاً من الاختمار الفكري الذي اضطربت به البلاد بين حرب السنين السبع والثورة الفرنسية. فكثرت الخط والجرائد والمجلات والمخطات المتنقلة وأندية القراءة كثرة ملؤها الحماسة. وانبثقت الحركات الأدبية الكثيرة، ولكل منها أيديولوجيتها ومجلتها وقادتها. وكانت أول جريدة يومية ألمانية "دي لايبتزيج تسايتونج" قد بدأت عام 1660، فلم يحل عام 1784 حتى كان هناك 217 جريدويومية وأسبوعية في ألمانيا. وفي 1751 بدأ ليسنج يحرر القسم الأدبي من "فوسيك تسايتونج" في برلين؛ وفي 1772 أصدر ميرك وجوته، هردر "أنباء فرانكفورت الأدبية؛ وفي 1773-89 جعل فيلاند من "در تيوتش مركر" أكثر المجلات الأدبية في ألمانيا نفوذاً. وكان هناك ثلاثة آلاف مؤلف ألماني في 1773، وستة آلاف في 1787، وفي ليبزج وحدها 133. وكثيرون منهم كانوا كتاباً يعملون بعض الوقت. وربما كان ليسنج أول ألماني تعيش من الأدب سنين كثيرة. وكان جل المؤلفين فقراء، لأن حق التأليف لم يحمهم إلا ولج إماراتهم؛ واختزلت الطبعات المسروقة أرباح المؤلف والناشر على السواء اختزالاً شديداً. وقد خسر جوته من كتابه جوتز فون برليشنجن وكان ربحه ضئيلاً من قصته "آلام فرتر"، وهي أعظم فوز أدبي لذلك الجيل. ويعد تفجر الأدب الألماني أحد الأحداث العظمى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فحين خط دالامبير من بوتسدام في 1763 لم يجد في المطبوعات الألمانية شيئاً يستحق الذكر(57)؛ ولكن ما وافى عام 1790 حتى كانت ألمانيا تنافس فرنسابل من الممكن تبزها في العبقرية الأدبية المعاصرة. وقد لاحظنا احتقار فردريك للغة الألمانية لأنها جشاء غليظة تؤذيها الحروف الساكنة؛ ومع ذلك فإن فردريك نفسه، بهزيمته الرائعة لهذا العدد الكبير من أعدائه، قد ألهم ألمانيا العزة القومية التي حفزت الكتاب الألمان على استعمال لغتهم والوقوف أنداداً لأمثال فولتير وروسو. فلم يحل عام 1763 حتى كانت الألمانية قد هذبت نفسها وأضحت لغة أدبية مستعدة للتعبير عن حركة التنوير الألماني.

ولم يكن هذا التنوير وليداً بتولياً. فهوالثمرة المؤلمة التي تمخضت عنها الربوبية الإنجليزية مقترنة بالتفكير الحر الفرنسي على أرض مهدتها عقلانية كريستان فون فولف المعتدلة. وكانت تفجرات الربوبية الكبرى التي فجرها تولاند وتندال وكولتز ووستن وولستن قد تمت ترجمتها إلى الألمانية قبيل عام 1743، وما وافى عام 1755 حتى كانت "رسائل" جريم تثبت أحدث الأفكار الفرنسية بين الصفوة المثقفة من الألمان. وتوفر في 1756 من أحرار الفكر في ألمانيا نفر أعطى إصدار "معجم لأحرار الفكر". وفي 1763-64 أصدر بازدوف كتابه (محبة الصدق) الذي رفض حتى وحي إلهي غير وحي الطبيعة ذاتها. وفي 1759 بدأ كريستيان فريدرش نيقولاي، وهوتاج خط برليني، "رسائل عن إحداث ثمرات الأدب"؛ وقد ظلت هذه الرسائل التي أثرتها منطقات بأقلام ليسنج وهردر وموسى مندلسون حتى عام 1765 مناراً أدبياً لحركة التنوير يحارب التطرف في الأدب والسلطة في الدين.

وشاركت الماسونية في الحركة فتأسس أول محفل للماسون بهمبورج في 1753، ووتلته محافل أخرى؛ وكان من أعضائها فردريك الأكبر، وفرديناند دوق برنزويك، وكارل أوجست دوق ساكسي-فايمار، وليسنج، وفيلاند، وهردر، وكلويشتوك، وجوته، وكلاسيت. وكانت هذه الجماعات بوجه عام تميل إلى الربوبية. ولكنها تحاشت النقد العلني للإيمان التقليدي. وفي 1776 نظم آدم فايسهاويت، أستاذ القانون الكنسي في إنجولشتات، جمعية سرية شقيقة، سماها "برفكتيبيلستن"، ولكنها اتخذت بعد ذلك الاسم القديم (المستنيرين) وقد اتبع مؤسسها، وهويسوعي سابق، المنهج الذي جرت عليه جماعة اليسوعيين، فقسم رفاقها إلى درجات من الإطلاع على أسرارها وأخذ عليهم العهد بطاعة قادتهم فيحملة "لتوحيد جميع الرجال القادرين على التفكير المستقل"، ولجعل الإنسان "آية من آيات العقل، فيبلغ بذلك أسمى درجات الكمال في فن الحكم".(58) وفي 1784 حظر كارل تيودور، ناخب بافاريا، جميع الجمعيات السرية، فلقيت "طائفة المستنيرين" حتفها في سن مبكرة.

وتأثر بحركة التنوير حتى الأكليروس. فطبق يوهان سملر أستاذ الفلسفة في هالة "النقد الأعلى" على الكتاب المقدس. فزعم (على العكس تماماً من الأسقف فاربورتن) حتى العهد القديم لا يمكن حتىقد يكون موحى به من الله، لأنه-إلا في مرحلته الأخيرة-تجاهل الخلود. وألمع إلى حتى المسيحية قد حرفها عن تعاليم المسيح لاهوت القديس بولس الذي لم ير المسيح قط؛ ثم نصح اللاهوتيين بأن ينظروا إلى المسيحية على أنها صورة عابرة من صور جهد الإنسان في بلوغ حياة فاضلة. فلما رفض كارل بارت وغيره من تلاميذه العقيدة المسيحية بأكملها إلا الإيمان بالله، عاد سملر إلى إيمانه السني، واحتفظ بكرسي اللاهوت من 1752 إلى 1791. ووصف بارت المسيح بأنه مفهم عظيم فقط. "مثل موسى، وكونفوشيوس، وسقراط، وسملر، ولوثر، ومثلي أنا"(59) كذلك سوى يوهان إيبرهارت بين سقراط والمسيح، وقد طرد من وظيفة القسوسية اللوثرية، ولكن فردريك عينه أستاذاً للفلسفة في هالة. وقسيس آخر يدعى ف. أ. تيلر اختزل المسيحية إلى الربوبية، ونادى لعضوية كنيسته أي إنسان مؤمن بالله، بما في ذلك اليهود(60)، أما يوهان شولتز، الراعي اللوثري، فقد أنكر لاهوت المسيح، ولم ير في الله أكثر من "الأساس الكافي للعالم"(61)، وقد طرد من وظيفته في 1792.

هؤلاء المهرطقون المفصحون عن هرطقاتهم كانوا قلة قليلة؛ ولعل المهرطقين الصامتين كانوا كثيرين. أما وقد رحب هذا العدد الكبير من رجال الدين بالعقل، وكان الدين في ألمانيا أقوى كثيراً منه في إنجلترة أوفرنسا وكانت فلسفة فولف قد أمدت الجامعات بهذا التوفيق بين العقلانية والدين، فإن التنوير الألماني لم يتخذ صورة متطرفة. ولم يسع إلى تدبير الدين بل إلى تخليصه من الأساطير والسخافات وسلطان رجال الدين-وهي أمور جعلت الكاثوليكية في فرنسا مبعث سرور عظيم للشعب وسخط شديد لجماعة الفلاسفة، وقد فطن العقلانيون الألمان-وهم يتبعونروسولا فولتير-إلى ما للدين من إغراء قوي للعناصر العاطفية في الإنسان؛ ثم حتى النبلاء الألمان، الأقل جهراً بارتيابيتهم من الفرنسيين، ساندوا الدين معواناً للأخلاق والحكم. واتىت الحركة الرومانتيكية فكبحت زحف العقلانية، ومنعت ليسنج من حتىقد يكون لألمانيا ما كانه فولتير من قبل لفرنسا.

المصادر

تاريخ النشر: 2020-06-04 17:04:58
التصنيفات: عصر النهضة, تاريخ ألمانيا

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

الحكومة توافق على 6 قرارات هامة خلال اجتماعها اليوم.. التفاصيل

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:22:56
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 39%

أبرزها ازدواج سفاجا - مرسى علم.. صور لمراحل تطوير طرق البحر الأحمر

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:05
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 42%

الأهلى يعلن غياب عمرو السولية عن مباراة الهلال السودانى

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:22:57
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 49%

المدارس تبدأ تفعيل مجموعات الدعم المدرسى للطلاب.. صور

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:06
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 44%

احتواء حريق هائل في برج بوسط العاصمة السودانية

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:55
مستوى الصحة: 50% الأهمية: 68%

أبرز عناوين الصحف السياسية السودانية الأربعاء 15 فبراير 2023م

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:56
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 54%

الولايات المتحدة تجدد دعمها "القوي" لطموح صربيا للانضمام إلى

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:14
مستوى الصحة: 47% الأهمية: 62%

قناة الوثائقية تستعرض سير النجوم.. أبرزهم نجيب الريحانى وفرقة رضا

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:04
مستوى الصحة: 37% الأهمية: 50%

نقابة الصحفيين في دائرة الحدث

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:53
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 63%

الحكم على شقيق الرئيس الجزائري راحل "بوتفليقة" بالسجن 12 عامًا بتهم فساد

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:45
مستوى الصحة: 71% الأهمية: 77%

الصحة: افتتاح 64 قسماً للعلاج الطبيعي بمراكز ومستشفيات 18 محافظة فى 2022

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:02
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 43%

الأصلى وبالطو وجروب الدفعة الأكثر مشاهدة على منصة watch it

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:22:58
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 39%

فرص عمل فى القاهرة برواتب تصل لـ6000 جنيه والتقديم خلال فبراير

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:00
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 45%

هيئة الاستثمار: تأسيس 31 ألف شركة جديدة برأس مال 117 مليار جنيه فى 22/21

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:22:54
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 44%

مبعوث صيني لدى الأمم المتحدة يدعو المجتمع الدولي إلى احتواء

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:10
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 64%

وكالة "الأنباء" الجزائرية تنتشي بـ "نصر دبلوماسي " مزعوم على المغرب

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-02-15 12:23:43
مستوى الصحة: 63% الأهمية: 80%

تحميل تطبيق المنصة العربية