مرزاق بقطاش

عودة للموسوعة

مرزاق بقطاش

مرزاق بقطاش
وُلـِد 1945
مدينة الجزائر، الجزائر
القومية  الجزائر
المهنة روائي
مبعث الشهرة طيور في الظهيرة، البزاة، جراد البحر، كوزة

مرزاق بقطاش (و. 1945)، هومحرر وروائي وصحفي جزائري. ويخط بقطاش باللغتين العربية والفرنسية.


حياته

وُلد مرزاق بقطاش في الجزائر العاصمة عام 1945. وبدأ مشواره الصحفي عام 1962، ولا يزال يخط في عدد من الصّحف والجرائد العربية والفرنسية، منها: الوطن والشعب والمجاهد وغيرها. عمل أيضًا في وكالة الأنباء الجزائرية، كان عضوًا في المجلس الأعلى للإعلام، وعضوًا في المجلس الأعلى للّغة العربية، وعضوًا في المجلس الأعلى للتّربية، وممثلاً للصّحافة المكتوبة وعضوًا في المجلس الاستشاري الوطني الذّي أسّسه الرّئيس السابق محمد بوضياف عام 1992، وتخلى عن عضويته لهذا المجلس بعد تعرضه للاغتيال سنة 1993 حيث كان على قائمة الموت بين أسماء عديدة من المثقفين والمفكّرين والفنانين والعقلاء وغيرهم الذّين تمّ اغتيالهم من أمثال طاهر جاووت، وعز الدّين مجوبي والشاب حسني وغيرهم.


تعرضه لمحاولة اغتيال

في عام 1993، تعرض بقطاش لمحاولة اغتيال، وأصيب برصاصة في رأسه، ونجا منها بأعجوبة. فيسبعة يونيو1994، اسم آخر يسقط من على لائحة الموت، حيث فقد زميله، وصديقه شركيت فرحات، الذّي كان رئيس تحرير في جريدة المجاهد آنذاك، ماذا يحتفظ اليوم من تلك الفترة الدّموية السّوداء التّي عاشتها الجزائر، وعاشها بامتياز.

بقطاش واللغة العربية

يعتبر مرزاق بقطاش مدافع قويّ للّغة العربية، ويحبّ استعمال الكنايات والاستعارات والمجازات، ويحلوله اللّعب مع الحدثة الجميلة ومسايرتها كلعبه بنوطات البيانو، في هذا المقام، تذكرت مقولة لجول رونارد يقول فيها: “حدثة جميلة أحسن بكثير من كتاب ضعيف”، وعن علاقته وارتباطه بالحدثة، يقول:

«عليّ القول أنّني أحبّ كلّ اللّغات التّي أتقنها: اللّغة البربرية، لغتي الأمّ، واللّغة العربية الكلاسيكية، والفرنسية والإنجليزية. أنا مولع باللّغة العربية في المقام الأوّل، لأنّها هي أساسًا كلّ ما تربطني بالثّقافة الإسلامية العظيمة والدّين والأدب الكلاسيكي. هذا يسمح لي القول بأنّ الحدثة في حدّ ذاتها تشكّل المضمون نفسه، إنّها الحالة النّفسية للحيّز الجغرافي الذّي طورته على عتبة بابه. تكفيني حدثة واحدة، إيقاع واحد منها لأنشئ قصيدة نثرية أوقصّة أورواية. أنا في الأساس إنسان كان يعطي دائمًا الأولوية للحدثة ولهذا السّبب فأنا شغوف بكلّ المخطوطات أوبكلّ ما خطّي. إذا صحّ التعبير، فأنا طفل ينتمي إلى حضارة خاصة، إلى حضارة انقرضت منذ أكثر من ألف سنة، إلى تلك الحضارة التّي منحت لغتها المكانة الأولى والأخيرة في مجال التّعبير الفنّي والأدبي.»


أعماله

في المجال الرّوائي، خط بقطاش الكثير من الرّوايات والقصص سواء باللّغة العربية أوالفرنسية، ومن بين مؤلفاته:

  • طيور الظهيرة
  • رسيرة في الهواء الطلق
  • جراد البحر
  • عزوز دحمان
  • بقايا قرصان
  • دار الزّليج
  • دم الغزال
  • مومس البحر
  • الرطب واليابس
  • جاحظيات
  • وداعاً بسمة
  • أغنية البعث والموت
  • الفيرا

آراؤه السياسية

مرزاق بقطاش

بعد إعلان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة للتّرشح لولاية رابعة، نطق بقطاش:

«حتّى وإن كان مريضًا يظلّ أحسنهم جميعًا، فالمترشحون الآخرون في نظري حسب العامية الجزائرية “ما يعمروش العين!” بودّي حتى أكون مخطئًا، إلاّ أنّ الجزائر لم تنجب رجالاً سياسيين بمثابة بوتفليقة ما عدا البعض من جيل بوتفليقة.»

وفيما يتعلّق بالدّيمقراطية في الجزائر وفي مختلف الأحزاب المتواجدة في الجزائر ودورها على السّاحة السّياسية، وكذا عن حقيقة الخطاب السّياسي الجزائري وعن حرية التّعبير، نطق:

«الدّيقراطية هي في المقام الأوّل نوع من البستنة: لابدّ القيام بالحفر، والحرث، والسّقي، والقيام بالتّعشيب المتواصل. وهذا ما لا يوجد عندنا لحدّ الآن. إنّ أيّ حزب سياسي ليس إلاّ جملة من الأفكار والمشاريع ذات أهداف معيّنة. هناك نوع منها ما يساري وما هويميني لكن هذا غير كاف. كما أنّ أغلب الشّباب السّياسيين يقومون بالمغالاة لا غير.»


أما في موضوع حرية التّعبير، فيقول: "أعتقد أنّ اللّعبة السّياسية قامت على أساسها منذ سنوات التسعين. هذه الحرية في التّعبير هي أمر حقيقي، لأنّ الصّحافيين على غرار التّجمعات والرّابطات الاجتماعية الأخرى دفعوا الثّمن غاليًا، أوّلاً بدمائهم وكذلك بشجاعتهم وثمّ بمثابرتهم، ولا مجال للرّجوع إلى الوراء في هذا الميدان".

شهادات

مخلوف عامر.

مرزاق بقطاش محرر ظل على بعد مسافات، من الأضواء والحضور شبه اليومي الذي يصر عليه الكثير من الكُتاب، كما ظل بعيدا عن الضجيج وعن مآدب الملتقيات والمهرجانات والمؤتمرات، ونادرا ما يسجل حضوره في مناسبة أدبية أوثقافية. يفضل حتى يشتغل في صمت، وأن ينشر أعماله بكثير من الهدوء.

يقول عنه الناقد والأكاديمي مخلوف عامر: «إنه المحرر الذي واكب تحولات الجزائر وعهدها، وأبى إلا حتى يجرد قلمه ليستخلص من المؤقت الزائل ما يمكث في الأرض، وهولم يتنصَّل يوما من كتاباته في السياسة والفكر أويتنكَّر للواقع، بل إذا ذلك كله يقع في صلب أعماله».

سعيد بوطاجين.

كما نطق عنه الأستاذ سعيد بوطاجين: «بقطاش نموذج عملي للمثقف، للأخلاق والتواضع واحترام الذات والكرامة البشرية. إنه مرجع حقيقي، سواء اتفقنا معه في طريقته السردية أولم نتفق، لكنه سيظل دائما قيمة لا يمكن تجاوزها في المشهد الأدبي والثقافي في الجزائر». مضيفا بأن له فهم موسوعية لافتة، متشعبة ودقيقة وممنهجة وعقلانية، لكنه لا يحب الظهور كثيرا، وقد يعود ذلك إلى السياق الثقافي العام الذي يشهده البلد، وإلى هذا الخلط الكبير في ظل انهيار القيم الفنية والجمالية وهيمنة الزيف والجماعات الضاغطة التي مسخت الثقافة والكتابة وأصبحت المبتدأ والخبر.

محمد مفلاح.

من جهته المحرر والباحث محمد مفلاح، يؤكد على حتى بقطاش: «يُعد من المثقفين المتصوفة الذين آمنوا بالحدثة الصادقة وخدموها بإخلاص وتحملوا مشاقها بصبر كبير». أما القاص والناقد مصطفى فاسي، فيقول عن صاحب «طيور في الظهيرة»، بأنه: «يؤمن بأن الكتابة الإبداعية ينبغي حتى تنبع من حياة الأديب وتجربته ومن محيطه الذي يعهده جيدا وقد اتىت أعماله معبرة عن هذا الإطار».

«كراس الثقافة» في عدده لهذا اليوم، يحتفي بالمحرر والأديب مرزاق بقطاش، من خلال هذا الملف التكريمي، الذي يتحدث فيه كتاب وأدباء في شهاداتهم، عن المحرر بقطاش، عن سيرته الأدبية ومسيرته وتجربته في الكتابة والإبداع، وهذا في سياقات متعددة، تضم: بقطاش الأديب، القاص، الروائي، الصحفي، المترجم، ومحرر السيناريو، ومحرر المسرح، وعاشق اللغة العربية والمنتصر والمنحاز لها، من خلال إصراره الدائم على الكتابة والإبداع بها رغم إجادته وإتقانه لعدة لغات.

إستطلاع/ نوّارة لحــرش

مخلوف عامر، محرر وناقد

القلم الوطني الذي لا يجفُّ والذي استوعب مبكِّراً حتى للأدب خصوصيته

«مرزاق بقطاش» هذا المحرر المرموق الذي عهدتُه أول مرة حين قرأت روايته: «طيور في الظهيرة» ثم «البزاة» وما بعدهما. ففي «الطيور» كنتُ أُحسُّ برفرفة أجنحة الأطفال الأبرياء وهم يبحثون عن فرصة للَّهوواللعب. وإذا الجنود الفرنسيون يرعبونهم ويطاردونهم، فلم يملك الأطفال إلا حتى ينتقموا بالإضراب عن تعلُّم الفرنسية. وتوقَّعتُ من عنوان «البزاة» أنها تحلِّق عالياً في السماء وتأبى العيش بين الحُفَر. وكان واحدٌ من أولئك الأطفال يُخزِّن في ذاكرته ما يجري من حوله ليُحوّله نقوشاً باقية ويترقَّب حتى يحين أوانها ليسكبها حبراً على ورق. هوهذا المحرر «مرزاق بقطاش» الذي استوعب مبكِّراً حتى للأدب خصوصيته، وأن من اختار طريق الكتابة الأدبية عليه حتى يحافظ على أدبية الأدب.

لم أفهمْ -يوماً- من كتاباته أنه يتنصَّل من السياسة والفكر أويتنكَّر للواقع، بل إذا ذلك كله يقع في صلب أعماله، لأن أنجح الأعمال الأدبية أقْدرها على إخفاء ما مِنْ شأنه حتى يسم الإبداع بالفجاجة والتسطيح. من هنا تميز «بقطاش» -من بين قلائل- بالاشتغال على اللغة العربية التي أحبَّها وكان في وُسْعه حتى يخط بالأمازيغية أوالفرنسية أوالإنجليزية لوكان يسعى إلى تحقيق شهرة زائفة. إني أتصوَّره لحظة الكتابة يفكر في جميع حدثة يضعها، يستحضر ظلالها ودلالاتها، وقد لَمْلمَ في ذاكرته الخصبة ما عزَّ من روائع الأدب العربي والعالمي.

لعلَّه بعدما اكتسب تجربة طويلة في الكتابة بالعربية، استوعب أيْضاً حتى الإبداع بلغة ما، يقتضي مشواراً طويلاً من الدّربة والمراس، ليس بأن يجعل لغة المألوف ترقى إلى اللا مألوف وحسب، وإنما بأن ينْأى بنفسه عن لغة الصحافة التي يتقنها وتطاوعه. ولديْه هذه المقدرة المتفرِّدة في حتى ينقل أصعب النصوص بلغة عربية راقية كما في «ألف وعام من الحنين». فهو-بحق- ليس بخادم للغة بقدر ما وسام على جبينها. ثم إنه المحرر الذي واكب تحولات الجزائر وعهدها، وأبى إلا حتى يجرد قلمه ليستخلص من المؤقت الزائل ما يمكث في الأرض. فإذا كان يغمس ريشته الأدبية في الزمان والمكان، فإنما ليرتفع عن الزمان والمكان. لأن صورة الوطن الذي يؤمن به ليست حكراً على جيل مضى ولا على جيل الحاضر. فهويريدها صورة جميلة لا تفقد بريقها على مر العصور. ولا سبيل إلى بلوغ غاية مماثلة إلا من خلال أدب جميل. ذلكم هوالهاجس الذي أراه يسكن هذا الإنسان الوقور منذ أقدمتُ على متابعة كتاباته.

وهوحين يخط بهذا الوعْي الوطني الحاد، فلأن الكتابة بالنسبة إليه ليست «قفزة في الظلام». إلا إذا كان الظلام يعني الكتابة في لحظتها الإشراقية، وإلا إذا كان النص يكتنفه الغموض الذي يكتنز فلسفة عميقة وتماهياً مع التربة التي نهْواها، مصوغاً في خطاب أدبي يستوقف القارئ هوذاته قبل حتى يمكِّنه من اختراق حاجزه البلوري. إنه من ألمع مثقفينا الذين لم تتمكَّنْ رصاصات الإرهاب من كسْر قلمه، فأبى هذا القلم إلا حتى يسيل مداداً وطنياً خالصاً مُخْلصاً.

مصطفى فاسي.
مصطفى فاسي/ قاص وناقد

ظل يطور تجربته بهدوء بعيدا عن التجريب والمغامرة فنضج أدبه على نار هادئة

أول لقاء لي مع «بقطاش مرزاق» كان ذات يوم من سنة 1969 عن طريق قصته «عندما يجوع البشر»، الحائزة على جائزة رضا حوحو، وتعهدت عليه شخصيا بعد ذلك، ثم تكررت اللقاءات من خلال القراءة على الخصوص، لأن اللقاءات العملية كانت قليلة نسبيا بعمل اختلاف وظيفة جميع منا، أنا بالجامعة التي التحقت بها سنة 1973 وبقطاش بالصحافة والإعلام. ولكنني ظللت أتابع وأقرأ ما ينشره في مجال السيرة على الخصوص، وهوآنذاك من الكُتاب الشباب الذين يأتون على رأس جيل السبعينيات، إلى حتى قرأت له سنة 1976 رواية، «طيور في الظهيرة»، وهو أول كِتاب نشره على ما أعهد حتى قبل حتى ينشر مجموعته القصصية الأولى بعنوان «جراد البحر»، سنة 1978.

وقد كانت هذه الرواية ناضجة مثلما كانت قصته الأولى، وقدم لها الطاهر وطار الذي أحب بها، ونطق عنها إنها ولدت قوية تعبر عن قوة صاحبها، الفنية، أوبالأصح عن أصالة ملكته، أوموهبته، أوعبقريته، وأن التجربة ستجعل بقطاش أحد الكُتاب الجزائريين المحترمين. كما نطق عن بقطاش أيضا إنه كالمحارب، اللفظة بالنسبة إليه عيار ناري، مستقل بذاته، هدفه المعنى الواضح كما هو، والصورة الفنية كما هي، حتى حتى الإنسان وهويمضي في القراءة لا يتمالك من القول، إذا التعبير باللغة العربية في الجزائر لم يعد مغامرة خطيرة، كما يلاحظ وطار بحق حتى بقطاش هوالوحيد من بين كُتاب هذه الفترة الذي ينتمي إلى المدينة، فهومولود بالعاصمة، ولذلك يخط عنها بفهم.

وظل الرجل يواصل الكتابة، ومع الممارسة تنضج التجربة، وقد جمع بين الإبداع سيرةً، فنشر عبر مسيرته مجموعات قصصية جادة وجميلة تعبر عن تجربة ناضجة ابتداء من أول سيرة له. وروايةً بحيث بلغت نصوصه في هذا المجال عدة روايات، كما خط مسلسلات للإذاعة والتلفزة قُدمت في الجزائر وخارجها، وقام بترجمة عدة أعمال أدبية منها في مجال الرواية لرشيد بوجدرة وفي السيرة ترجم مجموعة «التفاحة الحمراء»، المختارة بذوق رفيع من عدة كُتاب عالميين، وهوخريج قسم الترجمة، اختصاص العربية والفرنسية والإنجليزية، وفي فهمي أنه خط بعض إبداعاته باللغتين الفرنسية والانجليزية أيضا، إلا حتى إبداعه بالعربية التي أحبها أكثر من غيرها قد طغى على الباقي. وظل إلى جانب ذلك كله ينشر الموضوعات الثقافية والأدبية في الجزائر وبعض البلدان العربية في المشرق، هذه الموضوعات التي تنم عن إطلاع واسع على الثقافة العربية والعالمية قديما وحديثا.

فمع كون «بقطاش» إعلاميا من الناحية المهنية فإنه ظل طوال مسيرته مخلصا لمجال الثقافة والأدب، روايةً وسيرةً ومسلسلات ومنطقات ثقافية وأدبية، وقد ظل لحوالي نصف قرن يطور تجربته المتسمة بالهدوء والاتزان والعمق، بعيدا عن التجريب والمغامرة، فنضج أدبه على نار هادئة، وتميز أدبه بحضور الأسلوب الرصين، واللغة الجميلة مما جعل الدارسين يلتفتون إليه، ويقدمون عن رواياته وقصصه عدة رسائل جامعية، ماجستير ودكتوراه، بمختلف جامعات الوطن. يؤمن «بقطاش» حتى الكتابة الإبداعية ينبغي حتى تنبع من حياة الأديب وتجربته، ومن محيطه الذي يعهده جيدا، وقد اتىت أعماله معبرة عن هذا الإطار، فكانت، مثلا، روايته الأولى، «طيور في الظهيرة» 1976 تصور جوانب من طفولة المحرر زمن ثورة التحرير، وقدمت رواية «عزوز الكابران» 1989 صورة معبرة فيها كثير من السخرية والكاريكاتير عن تعفن النظام السياسي والإداري وعن النفاق والزيف المتسم بهما في فترة من مراحل هذا النظام، وترحل رواية «خويا دحمان» 2000، بالقارئ عبر زمنها المركز إلى الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، ومن خلال أحداثها وشخصياتها الحية تقدم تجربة غاية في العمق والأهمية، وتقدم رواية «دم الغزال» 2002، التجربة المريرة والفريدة التي مر بها المحرر والمتمثلة في محاولة اغتياله في جويلية 1993، وإذا كان القدر قد شاء له حتى ينجومن الموت، فإن جرح هذه التجربة يفترض أن يبقى، ويبقى عميقا. ثم تأتي رواية «رسيرة في الهواء الطلق» 2011، تعمل على تعرية واقع متعفن يتعايش فيه الإرهاب والسياسة والمافيا وتضارب المصالح، مصالح الكبار، والخلاصة أنها تقدم عالما يسوده التعفن والتخلف.

نتمنى للمحرر الأديب المبدع «بقطاش مرزاق» الصحة والعافية ليواصل إتحافنا بمزيد من أعماله الدراسية وإبداعه الأدبي الجميل.

السعيد بوطاجين، محرر وناقد ومترجم

مرزاق بقطاش: العلاّمة والعلامات

أعتبر الأديب مرزاق بقطاش أحد أقطاب الرواية والترجمة والسيرة والثقافة في تاريخ الجزائر المعاصرة، رغم ما لحقه من تهميش ونكران، إذا نحن احتكمنا إلى الصورة التي تُقدم عن المشهد في البلد، بالإعلاء من شأن بعضهم وطمس الآخرين، دون مبررات فنية أوجمالية مؤسسة على مسائل أكاديمية بحتة، وليس احتكاما إلى الأموال والعلاقات ومختلف الوسائط الأخرى.

هذا الأديب هوحلقة وصل ما بين جيل الستينيات وجيل السبعينيات، الجيل الأول الذي مثله الطاهر وطار وبن هدوقة ورشيد بوجدرة، والجيل الثاني الذي مثلته أقلام كثيرة، ومن هؤلاء: إبراهيم سعدي، الحبيب السائح، الأعرج واسيني، الأمين الزاوي، عبد العزيز بوشفيرات، محمد الصالح حرز الله، محمد مفلاح، جيلالي خلاص، الشريف الأدرع، وغيرهم من التجارب التي تبوأت في فترة كانت لها سياقاتها وخصوصياتها.

لقد قدم مرزاق بقطاش للرواية الجزائرية أعمالا أدبية جليلة، بلغة راقية ومنظورات متقدمة، وهويعهد جيدا معنى الحداثة والتحديث، معنى حتى تشتغل على التقنيات والموضوعات والرؤى، من غير السقوط في الابتذال الذي سقطت فيه عدة روايات لم تستوعب الحداثة، أونظرت إليها بشكل سطحي لا يرقى إلى فلسفتها وجذورها وأسبابها ومقاصدها. هذا المحرر يعهد الآداب العالمية، وهو، باللقاء، مؤهل لتبيئة المستورد وتوطين ما أمكن توطينه بالنظر إلى تجربته وتكوينه المركب الذي يمتد إلى معارف كثيرة: لسانية وفكرية وسردية وأنتروبولوجية، بصرف النظر عن خياراته الفنية والجمالية في عمل الكتابة، أوفي التصور السردي من حيث إنه موقف من الأشكال والطرائق. هناك أيضا مرزاق بقطاش المترجم النوعي الذي قدم ترجمات ذات قيمة معتبرة، ويجب التأكيد، دون أي تردد، على قدراته الكبيرة في النقل من لغة إلى لغة، بروية وإدراك، وبفهم نادرة لم ننتبه إليها كثيرا ولم ننوه بها في الوقت المناسب. هناك خلل ما وجب استدراكه عهدانًا بجهده الاستثنائي في هذا الحقل: هذا المحرر يتقن العربية والفرنسية بطلاقة، ودون أي انادىء، مثلما انتشر في السنين الأخيرة في بعض الأوساط الأدبية التي أشكلت عليها الأمور: مرزاق بقطاش معرب كما ينبغي عندما يحتاج الأمر ذلك، ومفرنس كما ينبغي عندما تفرض عليه الظروف حتىقد يكون مفرنسا، لكنه اختار الكتابة الروائية باللغة العربية لأسباب كثيرة، رغم حتى الكتابة بالفرنسية ليست متعذرة عليه، كما تحيل على ذلك منطقاته المتألقة في بعض الجرائد الوطنية.

إضافة إلى ذلك فإن له فهم موسوعية لافتة، متشعبة ودقيقة وممنهجة وعقلانية، لكنه لا يحب الظهور كثيرا، وقد يعود ذلك إلى السياق الثقافي العام الذي يشهده البلد، وإلى هذا الخلط الكبير في ظل انهيار القيم الفنية والجمالية وهيمنة الزيف والجماعات الضاغطة التي مسخت الثقافة والكتابة وأصبحت المبتدأ والخبر. مرزاق بقطاش نموذج عملي للمثقف، للأخلاق والتواضع واحترام الذات والكرامة البشرية: إنه مرجع حقيقي، سواء اتفقنا معه في طريقته السردية أولم نتفق، لكنه سيظل دائما قيمة لا يمكن تجاوزها في المشهد الأدبي والثقافي في الجزائر، كما سيظل، من منظوري، أديبا يعهد حدوده وقدراته، ومثقفا نوعيا لا يتنازل عن مواقفه ولا يبيع الخرافات والمسخ والأساطير من أجل تحقيق غايات غير أدبية، كما يحصل في راهننا المعهدي والسردي. جميع التقدير والامتنان لهذا المبدع الرائع، لهذه القامة المنسية التي طمستها أعوام الضجيج.

محمد مفلاح، روائي

من مؤسسي الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية وأثرى حياتنا الثقافية بقراءاته المتنوعة

ارتبط اسم «مرزاق بقطاش» في مخليتي بمجموعته القصصية الموسومة «جراد البحر»، وكان غلافها في طبعتها الأولى تُزينه لوحة مثيرة: أمواج متلاطمة. ومنذ تلك اللحظة تعهدتُ على عالم هذا المحرر السامق الذي احتل فيه البحر مكانة مميزة، وقد أحببتُ علاقة مبدعنا الكبير بهذا «المخلوق الخرافي» الذي خلده في رواياته وقصصه الرائعة. إنه عملا «فنان مدينة البحر الرجراج» الذي ظل في جميع كتاباته، يحمد الله على خلق نعمتيْ القراءة والكتابة، كما ظل مصرا على ممارستهما حتى في الأيام الصعبة التي مر بها. لقد أفنى «بقطاش» جميع حياته بين خلوة «القراءة» وعزلة «الكتابة»، فهويُعد بحق من المثقفين المتصوفة الذين آمنوا بالحدثة الصادقة وخدموها بإخلاص وتحملوا مشاقها بصبر كبير، ولم يلتفت يوما إلى الخلف منتظرا أي اعتراف زائف.

بقطاش من جيل المؤسسين للرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، إذ نشر روايته الأولى «طيور في الظهيرة» سنة 1976، وله في السرد العربي بصمته المميزة فهوعاصمي المولد والهوى والإبداع، وهوبالأخص «مراد» ابن البحار، أصيل حاضرة بني مزغنة العريقة، الذي ظل وفيًا لروح مدينته فخلد بأعماله الجميلة أحياءها الشعبية، ورسم هموم سكانها، كبارهم وصغارهم، في أثناء الثورة التحريرية وفي زمن الاستقلال بمختلف مراحله، وقد عشق «بقطاش» بحرها، وانشغل بمصائر البسطاء الذين امتزجت حياتهم بفضاء البحر العجيب الرهيب.

ومن خلال منطقاته «أبجديات» التي كنتُ أٌقرأها في الجرائد والمجلات الوطنية قبل حتى تُجمع سنة 2007 في كتاب أنيق، اكتشفتُ عالمه الإنساني المتسامح وفكره المستنير العميق، فهويخط بمحبة وبلغة عربية جميلة عن أعلام تراثنا العربي الإسلامي وبخاصة عن رموز الحركية العجيبة التي شهدها القرنان الثالث والرابع من الهجرة، كما ظل يخط عن أبرز أعلام الثقافة المعاصرة وبخاصة في مجالي الفلسفة والأدب، فأسهم بذلك في التعريف بجل الأدباء العالميين وأثرى حياتنا الثقافية بقراءاته المتنوعة.

فبقطاش يؤمن بالحداثة التي لا مناص منها، ويدعولها بحماسة وتبصر، وهي حداثة تسند إلى زاد من تراثنا المستنير وإلى فهم واعية بالذات الجزائرية. وهذا الفهم العميق هوالذي جعله يخط أعمالا إبداعية وبوعي حاد، ويتجلى هذا باشتغاله على معنى الكتابة وهواجسها ضمن مشروعه الفكري الأصيل، فهويخط بصدق ولا يفتعل التيمات الغرائبية جريًا من وراء موضة السراب، ولم يدعِ يوما أنه أبدع لغة متفجرة لم يأت بها الأوائل.

إنه صوت متميز في سيمفونية الرواية الجزائرية التي بدأ عزفها محمد ديب، فلا أحد يشبهه في ساحتنا الثقافية، إذ يُعد من بين الأدباء الكبار الذين خلدوا البحر وأهواله، ومنهم إرنست هيمنگواي وحنا مينا.

لما التقيت بمحررنا أول مرة في مدينة برج بوعريرج، وكنت قد كونتُ عنه صورة مثالية من خلال قراءاتي لكتاباته، وكان كما تخيلته: رجل هادئ، طيب، متواضع، ومغرم بالحديث عن الأدب العظيم، وفي هذا اللقاء أبهرني بإطلاعه الواسع على سير الروائيين العالميين وبخاصة كُتاب الأدب الإنجليزي، فكان يسرد أدق التفاصيل عن سيرهم وأعمالهم أيضا، وفي بعض الأحيان يذكر لي جملة أوفقرة كاملة من رواية وباللغة الإنجليزية التي كان يتقنها إلى جانب اللغة الفرنسية. ورغم سيطرته على اللغة الأجنبية فلم يخط بها أي عمل إبداعي، وظل وفيًا للكتابة بالعربية. ولقائي به، كان بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال الجبان، ورغم آثار هذا الحدث المروع فقد ظل محررنا مصرا على القراءة والكتابة، مواصلا سيره في درب الفكر والإبداع المحفوف بكل المخاطر.

أما عن موقف بعض المنتقدين لرواياته بسبب انتمائه إلى الواقعية، مدرسة كبار الأدباء، ورغم مرارة هذا الانتقاد، فلم يتوقف أديبنا الكبير عن التدفق الإبداعي. ولواهتم جميع روائي جزائري بالحفر في «البحر» الذي يعهد ذاكرته وأعماقه، كما عمل بقطاش، لقدمنا للأدب العربي والعالمي رواية مميزة بروائحها المتنوعة تنوع جغرافيا هذا الوطن القارة.

رائعة جدا التفاتتكم التكريمية إلى هذا الكبير في زمن الجحود. وهي في نظري التفاتة إلى أبنائه الخالدين وهم «طيور في الظهيرة»، و»البزاة»، و»عزوز الكبران»، و»دم الغزال»، و»خويا دحمان»، وغيرها من الأعمال الإبداعية. أطال الله عمر خويا مرزاق العزيز الصبور الذي أحب العيش في عالم القراءة والكتابة، فأحببناه لذلك.


ذلك الذي فـقـد البحر

سيرة بقلم: مرزاق بقطاش

أومأت إليه برأسي حتى نعم دون حتى أنزل من السيارة. لم يقل حدثة واحدة، بل قام بتؤدة من المقعد الحجري في الحديقة العمومية الواسعة. تعود طيلة عقود حتى يستريح في نفس المكان لبعض الوقت مع أصحابه من أهل البحر. ودعوته إلى حتى يركب إلى جانبي. كان وحيدا على غير عادته في ذلك الأصيل. عندما يصعد من الميناء، يتناول بعض الشاي ويدخن عددا من السجائر دون حتى يطيل الكلام مع رفاقه. جميع من يريد لقاءته يتعين عليه حتى يبحث عنه في ثلاثة أماكن: في عرض البحر، أوفي هذه الحديقة، أوفي المقهى العتيق المطل على أميرالية البحر. البحارة من أمثاله يحبون احتساء القهوة والشاي والثرثرة، ثم ينصرفون إلى أعمالهم، أوهم يعودون إلى ديارهم. الطيور التي تأوي إلى أشجار هذه الحديقة جميع أصيل تثير الآن عجيجا متبترا قبل حتى تنام وتعاود الارتحال في الصباح الباكر من اليوم التالي. هناك تشابه كبير بينها وبين أهل البحر في هذه الحياة. هم أيضا يعملون نفس الشيء، ولكن دونما صخب أوعجيج. تلك عادة عمي الحسين منذ عام 1922، أي منذ يفاعته. ولعله ورث عادات البحارة الأوائل، أولئك الذين كانت أميرالية البحر تزدهي بهم. يتجمعون فيها قبل حتىقد يكون لهذه الحديقة وجود. وينتظر الواحد منهم هذه السفينة أوتلك قبل الارتحال صوب البحر العريض للتجارة أوللدفاع عن الجزائر المحروسة أولخدمة حجاج بيت الله الحرام. كانوا يقومون بذلك على متون السفن الشراعية، في مبدإ الأمر، ثم السفن البخارية التي حلت محلها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

لم يتوقف عمي الحسين عن الإبحار بالرغم من أنه تجاوز السبعين عاما. عندما لا يجد سفينة خارجية يرتحل على متنها، يفضل حتى يخرج على متن قاربه المشدود إلى الأميرالية. غايته هي السفن الأوربية الراسية خارج الميناء لكي يتبادل مع بحارتها بعض السلع أوالسجائر، أولكي ينقلهم من تلك السفن إلى رصيف المرسى. وهوفي العادة يقدم لهم بعض ما يحتاجونه من معلومات عن الجزائر المحروسة. ثم يبحرون فرادى أوجماعات في تضاعيف المدينة على هواهم. أهل البحر لا ينافسونه في هذه التجارة المربحة لأنه يتحدث عددا من لغات أهل البحر، وينطق بالإنجليزية مثل الإنجليز والأمريكيين، ولا يجد أية صعوبة في التفاهم مع البحارة الذين عاشرهم أكثر من خمسين عاما في مختلف موانئ الدنيا. وكثيرا ما يعود بعد هذه الصفقات السريعة بعدد من السراويل والقمصان والقبعات الأمريكية ومختلف أنواع السجائر والأجبان. بل إنه يعود أحيانا محملا بعلب الكافيار. قبل بضع سنوات، عاد إلى الدار بمطرح مبطن بالريش أحب أمه كثيرا، ومنذ ذلك الحين وهي تنام عليه. هونفس المطرح الذي ارتحلت عليه إلى العالم الآخر في تلك العشية.

لم ينزل إلى المرسى في هذا اليوم. عهدت بعد ذلك من صديقه الحميم، عبد الرحمن أنه وقف في الصباح قبالة الأميرالية يتأمل حركة البحر وعمال الأرصفة، ويسترق النظر بين الحين والآخر إلى قاربه المربوط في قلب الأميرالية. قلبه لم يحدثه بالخروج صوب السفن الراسية في خليج الجزائر. ظل سحابة نهاره ينتظر من يقول له إذا والدته على وشك الرحيل أوهي ارتحلت نهائيا. غادر الدار في الصباح الباكر بعد حتى ألقى نظرة عليها، وحين لاحظ أنها غائبة عن الوعي، لم يتناول قهوة، لا، ولا هودخن سيجارته الأولى. وضع قبعته على رأسه وانطلق صوب أميرالية البحر ماشيا على غير عادته.

تزوج عمي مرتين بعد حتى شارف الستين عاما، وطلق في المرتين كلتيهما. كيف من الممكن أن لإنسان مثله حتى يستقر، ولولبعض الوقت، في مكان واحد وقد أمضى حياته كلها وهويقفز من سفينة إلى أخرى، ويجوب بحار الدنيا،يا ترى؟ نطق لي مرة أنا لست قسقطة بحرية تسكن صخرة ولا تبارحها إلى الأبد! من ليفربول إلى هوستون إلى ميناء سان بيدروفي كاليفورنيا، إلى يوكوهاما في اليابان، إلى جزر هاواي في المحيط الهادي، إلى ولنجتون في أقصى الكرة الأرضية! ويعود في جميع مرة محملا ببعض الحاجات التي يوزعها على أفراد العائلة أويهديها لبعض أصحابه. وتـنـتـهره والدته في جميع مرة: يدك مثقوبة، يا الحسين!. لا يكاد يجني فرنكا حتى يبذره في الحانات أوفي جهة أخرى. ميزته الأولى والأخيرة هي أنه يحب سمكا معينا هوكلب البحر. يعود من أرباض المرسى وقد تعتعه السكر، ويأمرني، وهويدس بعض الدراهم في جيبي: امضى بسرعة إلى سوق "جامع اليهود"، وجئني ببتر من كلب البحر! ويعمل هوبنفسه على تنقية السمك، ثم يطبخه بطريقة لا يعهدها إلا هو، مكثرا من الطماطم والفلفل الحار، ويدخن عددا من السجائر وهوينصت إلى الإذاعات البريطانية والأمريكية متابعا أخبار الدنيا، وأخبار الحروب بوجه خاص.

مضى عليه أسبوع تام دون حتى يفتح الرادبو. راديووالدته هوالذي يشغل باله. يتابع أخباره وهوبعيد عنه. وفي المساء، يهبط من غرفته الواقعة في سطح الدار، وينظر إليها نظرة فيها الكثير من الحيرة والتساؤلات، ثم يمضي الليل بطوله وهوينفث دخان سجائره الأمريكية. هل كان ينتظر حتى تدب الحياة فيها من حديث وتعود إليها عافيتها المعروفة عنها،يا ترى؟ يقول لي بنبرة من الحنان: لقد عملت أكثر مما يلزم في حياتها هذه. زوجت أبناءها وبناتها، ونقلت الكثير من الحجارة والرمل لكي تبني هذه الدار. وكانت شديدة الشفقة بالرغم من خشونتها في التعامل مع بعض الناس!

عندما شارفنا الدار، توقف بضع ثوان في الطريق، ثم نطق بصوت عذب لم أعهده فيه: أتدري، يا ابن أخي،يا ترى؟ أمي مثل البحر العريض تماما. وها أنذا أفتقد هذا البحر إلى الأبد!

لم تفصح عيناه عن شيء في تلك اللحظات اللهم سوى عما يشبه الضياع. هوضياع في عرض البحر المحيط هذه المرة. بل هوأشد وطأة من ذلك الذي عهده عام 1953 مع صاحبه عبد الرحمن وبعض البحارة الأوربيين الذين كانوا معه. بين يدي الآن صورته وقد نجا من الموت بالقرب من جزر الآزور في المحيط الأطلسي. في تلك الصائفة اصطدمت السفينة التي يعمل على متنها بجبل ثلجي عائم انزلق من "غرونلاند" في الشمال. عينان مشعتان، ووقفة تتحدى جميع شيء، بما في ذلك الموت. أما الآن، فقد حل رماد الحيرة محل ذلك البريق.

عمي الحسين أصغر الإخوة، وليس له من موئل آخر سوى الدار التي بنتها والدته قبل أكثر من خمسين عاما. يعود إليها بعد حتى يضرب طولا وعرضا في محيطات الدنيا. وأعجب ما فيه هوأنه ظل يخاطب والدته باللغة الأمازيغية. لم ينس هذه اللغة بالرغم من أنه أتقن عددا من لغات البحر. في كلامه مع والدته حب عميق. يعهد كيف من الممكن أن يختار حدثاته، كيف من الممكن أن يهادنها إذا اشتدت عليه. ينأى عنها بضع دقائق، ثم يعود إليها متوددا وكأنه ما يزال في صباه الأول. وتفهمه هي، تعهد حركاته وسكناته وما يجول في خاطره، لأنها لم تلده فحسب، بل عايشته في جميع حالاته النفسية، بما فيها تلك التي يجد فيها نفسه تحت وطأة السكر الشديد. حياته كلها تتلخص في خط منكسر ينطلق من الدار إلى البحر والعكس. فهوإما على متن سفينة تشق عباب المحيط، أوفي بعض الحانات التي يختلف إليها بالقرب من أميرالية الميناء، أوفي أحد موانئ الدنيا. وفيما عدا ذلك لا ينصت إلى غناء ولا إلى موسيقى. نطقت لي عمتي ذات يوم إنه كان في شبابه الأول يحب غناء السيدة "طيطمة"، مطربة الفن الحوزي الأندلسي.

حين دخلنا الدار، سقطت عيناه على جمع من الجارات اللواتي بلغهن خبر موت والدته. لم يدخل إلى الغرفة التي سجيت فيها. لم يجرؤ على ذلك وهوالذي تجرأ على الأمواج والطوافين وضربات الشمس في المحيط الهندي وعلى الجبال الصقيعية بين مضيق بيهرينغ وشواطىء اسكندنافيا والنرويج وغرولاند، بل، وعلى فصيل الإعدام الذي نجا منه في اللحظة الأخيرة عام 1940. جلس على طرف الحاجز الإسمنتي الذي يفصل ما بين صحن الدار والحديقة الصغيرة. أولى ظهره لغرفة والدته، وامتنع عن الصعود إلى السطح حيث توجد غرفته. لم يشعل سيجارة، بل نظر صوب نقطة ما من مدخل الدار، وأمضى بضع دقائق على هذا النحو. ثم ها هوينفجر باكيا. اقتربت منه عمتي، وكانت أصغر منه سنا، ونطقت له: أنا هنا يا خويا الحسين! وإذا به يتوقف عن البكاء. لم يبال بالنسوة اللواتي رحن يحدقن فيه، إذ ما أقل ما سقطت أعينهن عليه بعمل غيباته الطويلة المتكررة في البحر.

قلت في نفسي وأنا أجلس بالقرب منه عند بداية السلالم المفضية إلى السطح: لعله يتمنى الآن حتى لواستقبلته والدته ببعض الصفعات على قفاه. وكدت أضحك لولا أنه نظر إلي وطلب مني حتى أجيئه بفنجان قهوة. استذكرت ما روته لي جدتي. نطقت لي إنها هبطت نحوالمرسى ذات يوم من عام 1922، لتستقبله بصفعات على وجهه وقفاه بعد حتى غامر لأول مرة في البحر، وانطلق على متن سفينة أمريكية نحوالإسكندرية. استلمته من قائد السفينة التي عاد على متنها وهي تدرك في قرارة نفسها حتى البحر سيكون عالمه إلى آخر أيامه. أما هوفإنه استلذ ضرباتها تلك. وعندما كبر، امتنعت عن الوقوف في وجهه حدثا حمل كيسه الخشن من الكتان ونزل صوب الميناء. واكتفت بتوجيه اللوم له، وبانتزاع النقود التي في جيبه حتى لا يبذرها في حانة من الحانات.

المرة الأولى التي رأيت فيها عمي يبكي كانت عندما عاد من إفريقيا الشرقية. كان على متن سفينة سويدية مبحرة إلى إندونيسيا، وأصيب بسقم الزحار. نقل من زنجبار إلى عبدان في إيران، ومنها إلى أثينا، فمرسيليا، فالجزائر العاصمة. جسده تداعى كلية بعمل السقم. شق عليه حتى يموت بعيدا عن والدته وعن بلده. بكى بكاءً حارا لم تفهم معناه إلا والدته على الرغم من أنها شارفت المائة عام. أما أنا فقد استغربت حتى ينفجر بمثل ذلك البكاء لأنني تعودت حتى أرى فيه إنسانا قوي الشكيمة، لا يتواضع لأحد في هذه الدنيا حتى وإن تعين عليه حتى يقابل فصيل الإعدام بعد حتى ضرب محافظ شرطة فرنسي في ميناء عنابة عام 1940.

عندما انتصف الليل، هبط من السطح نزولا عند رغبة عمتي، ودخل غرفة والدته. خشيت هي عليه حتى ينفجر باكيا، لذلك لم تهجره وحده. نظر إلى جثمان والدته المسجى، وحدق مليا في صدرها، وخرج وهويفرك يديه. تلك هي عادته، وهي عادة ورثها عن والدته منذ الصغر عندما كانت ترى شيئا يزعجها. سمعته عندئذ يقول وهويعاود صعود السلالم: الله يرحمك يا أمى! الله يرحمك، أيها البحر العريض!.


المصادر

  1. ^ “مرزاق بقطاش” بين سردية الأدب و…السياسة، أخبار يووم
  2. ^ مرزاق بقطاش، أرشيف المجلات الأدبية والثقافية العربية
  3. ^ نوّارة لحــرش (2015-11-06). "مرزاق بقطاش: المحرر الذي كبر بعيدا عن الضجيج". النصر.

وصلات خارجية

  • مسيرة مرزاق بقطاش
تاريخ النشر: 2020-06-04 18:53:58
التصنيفات: Articles with hCards, مواليد 1945, كتاب جزائريون, أمازيغ جزائريون, روائيون جزائريون, صحفيون جزائريون, أشخاص من مدينة الجزائر

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

ختام”مشواري” داخل مجموعة من المعاهد العليا في ٥ محافظات

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:21:53
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 63%

ضبط مدير شركة مقاولات هارب من تنفيذ 7 أحكام قضائية

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:21:19
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 57%

شاهد.. وصلة رقص ساخنة بين حورية فرغلي وعروس في فرحها

المصدر: المصريون - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:21:58
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 63%

وزير الدفاع: القوات المسلحة قادرة على حماية الوطن وصون مقدساته

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:21:30
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 54%

المغنى الأمريكى Redveil يرتدى الكوفية الفلسطينية ويعرض أسماء الشهداء

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:22:45
مستوى الصحة: 43% الأهمية: 36%

الرئيس السيسي يبحث مع نظيره الزيمبابوي سبل تعزيز العمل الأفريقي

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:21:21
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 57%

استشهاد ضابط شرطة ومقتل 6 عناصر شديدة الخطورة بأسيوط

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:22:43
مستوى الصحة: 42% الأهمية: 44%

ضبط طالب بسلاح أبيض أمام إحدى المدارس بالقاهرة

المصدر: صوت الأمة - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:21:24
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 69%

الثالثة بـ30 جنيها والثانية بـ50.. أسعار تذاكر مباراة منتخب مصر وجيبوتي

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:22:37
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 46%

تواصل مبادرة “حرفتك مهنتك” ب ٣ محافظات

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:21:54
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 60%

"ديلى ميل" تنشر صور كوكايين عثر عليه فى البيت الأبيض يوليو الماضى

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:22:30
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 41%

الشباب تواصل تنفيذ حملة “SAVE WATER”

المصدر: وطنى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:21:47
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 64%

وزارة الصحة: الأنسولين يعمل بشكل أسرع عند حقنه فى البطن

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2023-11-14 15:22:41
مستوى الصحة: 38% الأهمية: 44%

تحميل تطبيق المنصة العربية