تاريخ اليهود في الولايات المتحدة

عودة للموسوعة

تاريخ اليهود في الولايات المتحدة

تاريخ اليهود في الولايات المتحدة، كان جزءاً من النسيج القومي الأمريكي منذ زمن المستعمرات.

حتى ثلاثينيات القرن التاسع عشر كانت الجالية اليهودية في شارلستون، كاليفورنيا الجنوبية الأكثر عدداً في أمريكا الشمالية. بأعداد كبيرة من المهاجرين اليهود القادمين من ألمانيا في القرن التاسع عشر، قاموا بتنظيم أنفسهم في بلدات ومدن صغيرة متعددة.

A much larger immigration of Eastern European Jews, 1880–1914, brought a large, poor, traditional element to مدينة نيويورك. وصل اللائجون من اوروپا بعد الحرب العالمية الثانية، ووصل الكثريون من الاتحاد السوڤيتي بعد عام 1970.

في أربعينيات القرن العشرين، شكل اليهود 3.7% من سكان الولايات المتحدة. حالياً وصل عددهم إلىخمسة مليون-أقل من 2% من اجمالي السكان-وتقلص عددهم بسبب الأسر الصغيرة والتزاوج. تهجرز الأعداد الكبيرة من السكان في المناطق الحضرية في نيويورك (2.1 مليون في 2000)، لوس أنجلس (668,000)، ميامي (331,000)، فلادلفيا (285,000)، شيكاگو(265,000) وبوسطن (254,000).

مقدمة

يمكن القول بأن تاريخ الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة، التي صارت جماعة واحــدة فيما بعد، جزء لا يتجزأ مـن التاريخ الغربي بشكل عام والتاريخ الأمريكي بشكل خاص، ذلك حتى أصولها تعود إلى هجرة الشعوب الأوربية إلى العالم الجديد. وتعكــس تجربة أعضاء الجماعـة في الولايات المتحدة جميع الإيجابيات والسلبيات التي تسم تجربة الإنسان الأمريكي.

ويُعدُّ وصول الإنسان الغربي إلى الأمريكتين (فيما يُسمَّى «اكتشاف العالم الجديد») من أبرز الأحداث التي أثرت في تاريخ الإنسان في العصر الحديث إذ فتح مجالات جديدة للاستثمار أمام الإنسان الغربي وزاد ثروته بشكل مذهل بعد حتى كان الغرب من أفقر مناطق العالم. ومن هنا، اتجه الفائض السكاني الغربي (كما كان يشار إلى الأفراد الذين لم يحققوا شيئاً من الحراك الاجتماعي ولم يتمكنوا من تحقيق هوياتهم الدينية والثقافية) إلى العالم الجديد ليحقق أعضاؤه من خلال التشكيلات الاستعمارية الغربية ما فشلوا في تحقيقه داخل التشكيلات القومية الغربية. ولكن جميع عملية هجرة لها قطبان: أحدهما إيجابي هوعنصر الجذب إلى الوطن الجديد، والآخر سلبي هوعنصر الطرد من الوطن القديم. وقد ذكرنا بعض عناصر الطرد الخاصة بالمجتمع الغربي ككل حينما تحدثنا عن الفائض السكاني، وهي تنطبق على أعضاء الجماعات اليهودية انطباقها على الآخرين. ولكن عملية الهجرة إلى العالم الجديد تزامنت مع عدة عناصر طاردة خاصة بالجماعات اليهودية وحدها جعلت نسبة اليهود المهاجرين أعلى من نسب الجماعات الأخرى (ربما باستثناء الأيرلنديين). ونوجز هذه العناصر فيما يلي:

1 ـ طرد اليهود السفارد من إسبانيا، ثم استيطانهم في أنحاء العالم الغربي والدولة العثمانية.

2 ـ هجمات شميلنكي في منتصف القرن السابع عشر في بولندا والتي كانت تضم الجزء الأكبر من يهود العالم.

3 ـ تقسيم بولندا في نهاية القرن الثامن عشر بما نتج عنه من توزيع اليهود فيها على روسيا وألمانيا والنمسا، وما نجم عن ذلك من قلقلة وعدم استقرار.

4 ـ تعثُّر التحديث في شرق أوربا، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، وكان يضم آنذاك يهود اليديشية وهم أغلبية يهود العالم الساحقة، بل ووصول عملية التحديث إلى طريق مسدود في نهاية الأمر. وهجر ذلك أثراً عميقاً في أعضاء الجماعات اليهودية إذ خلق لديهم إحساساً عميقاً بالإحباط، وخصوصاً أعضاء الطبقة الوسطى.

5 ـ لكن من أبرز الأسباب التي تهم اليهود، أكثر من أية جماعة أوربية أخرى، حتى المجتمع الأمريكي مجتمع فهماني تماماً. ومع حتى الديباجـات والرمـوز الدينية المســيحية كانت منتشرة في المراحل الأولى، إلا حتى جميع هذه الأمور ضمرت سريعاً وهيمنت الرؤية البرجمـاتية المادية النفعية حـيث أصبح الحكم على جميع شيء في الواقع، وضمن ذلك الإنسان، يَصدُر عن منظور مدى نفعه (المادي). وينطلق دستور الولايات المتحدة من أطروحات الاستنارة والإيمان بالمساواة بين البشر ومن حتى هدف الحياة هوالبحث عن السعادة أوالمتعة. وفي عام 1840، اعترض المواطنون على حاكم جنوب كارولينا لأنه أشار إلى الثـالوث المسـيحي في دعـاء عيـد الشكر. وكان هذا الحادث من أبرز الوقائع التي تدل على تراجع المسيحية حتى على مستوى الرموز العامة، وهوأمر يشكل جاذبية خاصة للمهاجر اليهودي.

6 ـ يجب حتى نتذكر حتى المجتمع الأمريكي مجتمع استيطاني،وأن أسطورة الاستيطان الغربية أسطورة عبرانية.فالولايات المتحدة كان يُنظر إليها باعتبارها صهيون الجديدة (والمستوطنون البيوريتان هم العبرانيون)،أما السكان المحليون أوالأصليون فهم الكنعانيون والعماليق من أجداد العرب.بل قُدِّم اقتراح بأن تكون العبرية لغة البلد الجديد بدلاً من الألمانية أوالإنجليزية.وهذا جزء من ميراث الإصلاح الديني في الغرب حيث زاد الاهتمام بالعهد القديم وحوادثه التاريخية.ومن المؤكد حتى هذا خلق تعاطفاً كامناً مع المهاجرين اليهود وجعل الولايات المتحدة ذات جاذبية خاصة لهم إذ حتى النسق الرمزي لا يستبعدهم.

7 ـ المجتمع الأمريكي مجتمع استيطاني بناؤه الطبقي في حالة سيولة وانفتاح شديدين ولا يضع أية عقبات أمام المهاجر اليهودي.

8 ـ ساهم أعضاء الجماعة اليهودية، مع غيرهم من الجماعات المهاجرة، في صياغة رؤية أمريكا لنفسها كمجتمع تعددي، وفي تشكيل الواقع الأمريكي كواقع لا تتحكم فيه مؤسسات وسيطة (قبائل أوكنيسة مركزية).

لكل هذا أصبحت الولايات المتحدة «الجولدن مدينا» بحق أي «البلد المضىي» وملجأ الغالبية الساحقة من يهود العالم ووطنهم.

لكل هذه الأسباب، سواء الجاذبة أم الطاردة، لم يكن من الغريب انتنطق الكتلة البشرية اليهودية من شرق أوربا إلى الولايات المتحدة أساساً أوإلى غيرها من المجتمعات الاستيطانية الجديدة مثل أستراليا وكندا وجنوب أفريقيا والأرجنتين، إذ حتى الهجرة اليهودية هي في نهاية الأمر جزء لا يتجزأ من الهجرة الاستيطانية الغربية.

ويمكن تقسيم تاريخ الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة إلى المراحل التالية:

1 ـ الفترة الكولونيالية: السفارد وبداية وصول الإشكناز الألمان.

أ) الفترة الهولندية: السفارد (1654 ـ 1764).

ب) الفترة الإنجليزية: بداية وصول الإشكناز الألمان (1664 ـ 1776).

2 - الفترة الألمانية:

أ) الفترة الأولى (1776 ـ 1820).

ب) الفترة الثانية (1820 ـ 1880).

3 ـ بداية الفترة اليديشية أوفترة الهجرة اليديشية الكبرى (1880 ـ 1929).

4 ـ نهاية الفترة اليديشية (1929ـ 1945)، وظهور اليهود الأمريكيين.

5 ـ اليهود الجدد أوالأمريكيون اليهود (من بعد الحرب العالمية الثانية حتى عام 1970).

6 ـ اليهود الجدد أوالأمريكيون اليهود (1971 - حتى الوقت الحاضر).

وإن تكن هناك وحدة ما في تاريخ الجماعة اليهودية فهي وحدة أمريكية خاصة وليست يهودية عامة، ولا يمكن فهم هذا التاريخ إلا في هذا الإطار إذ أننا لواكتفينا بالإطار اليهودي فسنلاحظ اختلافات حادة وعميقة. وقد حاول السفارد إيقاف هجرة الإشكناز الألمان الذين حاولوا بدورهم استصدار تشريعات لوقف هجرة يهود اليديشية. وقد نشبت الصراعات الدينية العميقة بين الأرثوذكس من جهة والفرق الدينية الأخرى مثل المحافظين والإصلاحيين والتجديديين من جهة أخرى، وبين الصهاينة الاستيطانيين والصهاينة التوطينيين. ولونظرنا إلى هذه الخلافات بمعزل عن التاريخ الأمريكي وداخل إطار التاريخ اليهودي لتحوَّلت إلى مجمـوعة من الأحـداث المتناقضة التي لا يحكمها أي منـطق داخـلي. ولكن، في ضوء مسار التاريخ الأمريكي، يمكن النظر إلى أعضاء الجماعة اليهودية باعتبارهم مجموعات من المهاجرين أتوا من بلاد مختلفة، لهم انتماءات حضارية ودينية غير متجانسة وتمت أمركتهم ثم دمجهم تماماً في المجتمع مع توقُّف الهجرة من الخارج. ويمكن فهم هيمنة الصهيونية عليهم واحتجاجهم عليها، ورفضهم لها أحياناً ومحاولتهم التملص منها أحياناً أخرى في ذلك الإطار نفسه.


الفترة الاستعمارية

أ- الفترة الهولندية:السفارد (1654 ـ 1664):

يعود تاريخ استقرار أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة إلى عام 1654 حين استقر في مدينة نيوأمستردام (نيويورك فيما بعد) مجموعة من اليهود السفارد (المارانو) يبلغ عددهم ثلاثة وعشرين يهودياً هاربين من محاكم التفتيش البرتغالية في البرازيل. وكان هؤلاء يعملون بالتجارة، فاستمروا في مهنتهم دون أية عوائق. وقد ساد آنذاك في الأوساط الهولندية فكر تجاري يغلِّب المصلحة المادية على الانتماءات الدينية، الأمر الذي هيأ الجولأن يحصل اليهود على حقوقهم، كعناصر نافعة، ويمارسوا نشاطهم التجاري دون قيود. ولكن الجماعة اليهودية اختفت بعد قليل نظراً لظهور فرص أعظم في أجزاء أخرى من الأطلنطي، وخصوصاً في جزر الهند الغربية.

ب) الفترة الإنجليزية: بداية وصول الإشكناز الألمان (1664 ـ 1776):

بعد حتى استولى الإنجليز على نيوأمستردام وأصبحت تُسمَّى نيويورك (عام 1664)، وبعد تصفيتهم للجيـب الهـولندي في شـمال أمريكا، ازداد النشاط التجاري في هذا الجزء من العالم وبدأ اليهود يتجهون نحوه بشكل متزايد. ولم يحل عام 1700 إلا وكان هناك ما بين مائتي وثلاثمائة يهودي، ثم بلغ عددهم 2500 عام 1776. وكان معظم المستوطنين من الأثرياء. وقد ظل العنصر السفاردي (من إسبانيا والبرتغال) هوالغالب حتى عام 1720 حيث بدأ العنصر الإشكنازي (الألماني أساساً) يصبح غالباً. وهذا هوالنمط الأساسي للاستيطان اليهودي في الغرب بعد القرن الخامس عشر إذ كان السفارد يشكِّلون دائماً النواة الأولى ثم يتبعهم الإشكناز حتى يصبحوا العنصر الغالب بكثافتهم البشرية. وقد تكونت جماعات يهودية في نيوبورت وفيلادلفيا ونيويورك وتشارلستون (في ساوث كارولينا) وأتلانتا (في جورجيا).

وكان أعضاء الجماعة اليهودية يعملون أساساً بالتجارة، فكان هناك الأرستقراطية الثرية التي كانت تتاجر في المنتجات الزراعية وتُصدِّرها إلى الخارج. وكان منهم مُلاَّك السفن والمتعهدون العسكريون الذين كانوا يزودون الجيش البريطاني بما يحتاج إليه من مؤن وتموينات. وكان هناك عامة اليهود من تجار متجولين يتاجرون مع الهنود وغيرهم. وكان منهم بعض الحرفيين من إسكافيين ومقطري خمور وصانعي لفائف التبغ والصابون وسروج الخيل والحقائب الجلدية والمشتغلين في سك الفضة وتصنيعها. واشتغل بعض كبار المموِّلين من أعضاء الجماعة اليهودية بأهم تجارة آنذاك وهي تجارة الرقيق، حيث كانت نسبة اليهود المركزين في هذه التجارة عالية. وكان من بين التجار حاخام (رئيس الجماعة اليهودية في مدينته) وهوما يعني القبول الاجتماعي لهذه التجارة. واليهود في هذا لا يختلفون عن جميع الأمريكيين الذين استفادوا من استيراد العبيد وتشغيلهم. أما الأعمال الزراعية وأعمال الري، فقد اقتصرت على عدد قليل جداً من اليهود. وكل هذا يبيِّن حتى أعضاء الجماعة حملوا معهم إلى العالم الجديد ميراثهم الاقتصادي (الوظيفي والمهني) الأوربي. ومع هذا، لا يمكن القول بأنهم كانوا جماعة وظيفية وسيطة، وهوأمر غير وارد في المجتمعات الرأسمالية التي يُعَد النشاط التجاري والمالي فيها نشاطاً أساسياً. وقد استمر هذا الوضع حتى الأربعينيات من القرن العشرين، مع توقُّف تدفق الهجرة من أوربا، وأصبح أعضاء الجماعة اليهودية أمريكيين خاضعين لحركيات المجتمع الأمريكي والغربي المتاحة لهم.

وقد تم تأسيس أول جماعة دينية في نيويورك عام 1658 (الأبرشية اليهـودية) وتبعتها جماعـات دينيـة أخرى. ويُلاحَظ حتى الأشـخاص العاديين، الذين لم يتلقوا أيَّ تعليم حاخامي تلمودي كانوا هم المتحكمين في المعبد اليهودي، على عكس الوضع في أوربا حيث نجد حتى الحاخام هوالشخصية الأساسية. وقد استأجرت أول أبرشية يهودية حاخاماً عام 1840 وكانت صلاحياته دينية وحسب، إذ لم تكن هناك أية محاكم دينية لها صلاحيات قضائية. وظل هذا أحد ثوابت وضع اليهود في العالم الجديد. وكانت الأطر التنظيمية اليهودية الأخرى مسألة اختيارية طوعية، على خلاف القهال في شرق أوربا حيث كان على اليهود حتى ينضموا إليه ويمارسوا حقوقهم وواجباتهم من خلاله. وكانت جهود الجماعة تتجه نحورعاية فقراء اليهود من بين المهاجرين الجدد والعجزة والعجائز، كما كانت تتجه إلى مساعدة المدارس اليهودية.

وقد حصل اليهود على جميع الحقوق التي حصل عليها غيرهم من المستوطنين، فكانوا يقومون بالخدمة في الميليشيا ويتمتعون بحق الملكية والسفر والسكنى في أي مكان. ففي هذا المجتمع التجاري الجديد، لم تكن للقيم التقليدية الدينية فعالية كبيرة إذ سادت القيم النفعية والعملية.

وفي هذا الإطار، كان يُنظر إلى العنصر اليهودي باعتباره عنصراً نافعاً يساهم في تطوير المستعمرات الجديدة. ولم يكن هناك قطاع اقتصادي يهودي مستقل عن القطاع المسيحي، كما لم تكن هناك حرف أووظائف يهودية رغم حتى الموروث الاقتصادي الأوربي لليهود وخبراتهم السابقة كانت تحدِّد اختياراتهم الاقتصادية في كثير من الأحيان وتحدُّ منها في بعض الأحيان. ولم يكن هناك نظام تعليمي يهودي مستقل، باستثناء بضع مدارس لتعليم اليهود الذين يضطلعون بوظائف المؤسسة الدينية أولتعليم أطفال اليهود تعاليم دينهم أوتدريبهم على احتفالات بلوغ سن التكليف الديني (برمتسفاه) التي أصبحت من أبرز ملامح الحياة اليهودية في الولايات المتحدة. وكانت المدارس الفهمانية مفتوحة على مصراعيها أمامهم، فكان أبناء أثرياء اليهود يلتحقون بها. ولكن لم تُبد أغلبية أعضاء الجماعة اليهودية آنذاك اهتماماً كبيراً بالتعليم العالي بسبب توجُّههم الاقتصادي. ولم يكن أعضاء الجماعة اليهودية يتميزون بأزياء أولغة خاصة بهم، بل كانوا يسلكون سلوك بقية أعضاء المجتمع. وأدَّى جميع هذا إلى اختفاء كثير من القيم التقليدية اليهودية التي حملها المهاجرون معهم من أوطانهم الأصلية، بل كان أبناؤهم يسخرون منها تماماً. كما حتى كثيراً من الشعائر الدينية أخذ يطويها النسيان والإهمال، ولم يكن أعضاء الجماعة اليهودية يشعرون بأن وطنهم الجديد هوالمنفى (جالوت) الذي تتحدث عنه الخط الدينية، بل اعتبروه وطنهم النهائي والقومي والوحيد (تماماً كما عمل أعضاء الجماعة في بابل من قبل).

ويمكن القول بأن الملامح الأساسية للجماعة اليهودية، وكذلك ثوابت تاريخـها، تحـدَّدت في تلك الفترة بحيث وسـمت تطورها اللاحق بميسمها. ولم تشهد مراحل التطور اللاحقة سوى تعديل بعض السمات وتعميق البعض الآخر.

وقد أدَّى هذا المناخ الجديد إلى اندماج اليهود سريعاً، بل وإلى انصهارهم. وعلى سبيل المثال، تزوج جميع وجهاء اليهود في ولاية كونتيكت من غير اليهود، وكان الزواج المُختلَط أمراً مألوفاً في المدن الكبيرة بكل ما ينتج عنه من انصهار كامل.

الفترة الألمانية الأولى (1776-1820)

عند إعلان استقلال الولايات المتحدة، لم يكن عدد أعضاء الجماعة اليهودية يزيد على ألفين أوثلاثة آلاف، ولكن عددهم وصل إلى أربعة آلاف عام 1820. وقد تحدَّدت مواقفهم حسب مواقف الجماعات غير اليهودية التي كانوا يعيشون بين ظهرانيها أوالطبقة التي كانوا ينتمون إليها. ولما كانت أغلبيتهم من التجار الذين لا تربطهم علاقة كبيرة بالوطن الأم (إنجلترا)، فقد كانوا من مؤيدي إعلان الاستقلال. ومع هذا، كانت هناك أقلية ضمن الحزب الموالي لإنجلترا. وقد أكد إعلان استقلال أمريكا، وكذلك دستورها، المساواة الكاملة بين الأفراد، فأُلغي جميع ما تبقَّى من تفرقة، مثل فرض القَسَم المسيحي على أيّ طالب وظيفة. ولم يكن اليهود مجموعة من الناس الذين يتم التسامح معهم أواستبعادهم كما كان الحال في أوربا، وإنما كانوا مواطنين لهم جميع الحقوق وعليهم جميع الواجبات، ولمقد يكونوا أيضاً جماعة وظيفية وسيطة. وقد نص التعديل الأول للدستور الأمريكي على الفصل الفوري للدين عن الدولة. ولكن يُلاحَظ حتى بعـض الولايات الأمريكية لم تطبق الدستور، الأمر الذي كان يعـني التفـاوت في وضع أعضاء الجماعة اليهودية من ولاية إلى أخرى. ولكن الوضع، بشكل عام، كان يتسم بالمساواة وبتطبيق مُثُل الاستنارة والانعتاق.

وأدَّى التوسع في زراعة القطن إلى حتى أصبح بعض أعضاء الجماعة اليهودية من أصحاب الأراضي وكبار التجار. كما اتجه بعضهم إلى الاشتغال في مجال النشاطات المالية والعقارية، فأنشأوا شركات تأمين، وعملوا في أسواق الأسهم والسندات وفي قطاع الصناعة، وفتحوا المصارف. كذلك ولج بعض أعضاء الجماعة اليهودية (عام 1820) مهناً جديدة، مثل: القانون والطب والهندسة والتربية والصحافة. وكان اليهـود موزعـين على معـظم مدن الولايات المتحـدة.

أما من ناحية تنظيم الجماعة اليهودية، فيُلاحَظ حتى الهيمنة كانت ولا تزال للعناصر غير الدينية. ولم يكن المعبد اليهودي والحاخام سوى جزء من كلٍّ يدار حسب القيم العامة للمجتمع الأمريكي وليس حسب القيم الدينية أوالتقليدية اليهودية الخاصة. ومن الناحية الثقافية، لم يكن إسهام أعضاء الجماعة اليهودية الثقافي في الحضارة الأمريكية إسهاماً ذا بال. وعلى كلٍّ، فقد كانت التنطقيد الثقافية الأمريكية نفسها لا تزال آنذاك تابعة لأوربا، ولم يكن هناك بعد إبداع أمريكي مستقل.

لقد كان أعضاء الجماعة اليهودية بشكل عام مندمجين في مجتمعهم الأمريكي، ولم تكن لهم ثقافة مستقلة. وكان انتماؤهم إلى ثقافتهم اليهودية (الدينية أوالإثنية) مسألة شكلية وحسب. وفي هذه الفترة، أصـبح العنصر الإشـكنازي الألماني العنـصر الغـالب تماماً.


الفترة الألمانية الثانية (1820-1880)

لا شك في حتى التطور الأساسي الذي طرأ على أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة هوازدياد عددهم وتحوُّل الجماعة من أقلية صغيرة إلى واحدة من أكبر الجماعات اليهودية خارج شرق أوربا. وعند بداية هذه الفترة، كان عدد أعضاء الجماعة اليهودية نحوأربعة آلاف، زاد إلى ستة آلاف عام 1826 ثم إلى 15 ألفاً عام 1840. وقُدِّر عدد اليهود بمائة وخمسين ألفاً عام 1860، ويُنطق إنه وصل إلى مائتين وثمانين ألفاً مع نهاية هذه الفترة (عام 1880). وكان المهاجرون، أساساً، من أصل ألماني، وخصوصاً من منطقة بافاريا وبوزنان بعد ضمها من بولندا، أوكانوا من اليهود الألمان أومن بوهيميا والمجر اتىوا مع موجة الهجرة الألمانية إذ هاجر خمسة ملايين ألماني من بينهم مائتا ألف يهودي (1825 ـ 1890). وكانت أغلبية المهاجرين من الفلاحين الألمان الذين اضطروا إلى الهجرة، فهاجر معهم صغار التجار اليهود الذين كانوا مرتبطين اقتصادياً بهم واستوطنوا على مقربة منهم في الولايات المتحدة. وقد وصلت الهجرة إلى ذروتها بعد إخفاق ثورات 1848 ـ 1849 في أوربا وبعد الكساد الاقتصادي. وقد كان يهود ألمانيا ألمانيين، تماماً مثلما كان السفارد إسبانيين وبرتغاليين.

وقد استقر أكبر عدد من أعضاء الجماعة اليهودية في نيويورك، فبلغوا أربعين ألفاً عام 1860، وتجئ بعدها مدن أخرى مثل فيلادلفيا وبالتيمور. كما تمركزوا في المراكز التجارية بالداخل، على الأنهار وعلى ضفاف البحيرات الكبيرة، واتجهوا نحوالغرب في سيراكيوز وبفالووكليفلاند وشيكاغووديترويت، وفي سينسناتي ومنيابوليس وسانت لويس ونيوأورليانز. وتدافعت أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية إلى كاليفورنيا في الأعوام 1849 ـ 1852 مع حُمَّى الاندفاع نحوالمضى، إذ بلغ عدد أعضاء الجماعة اليهودية الذين استوطنوا سان فرانسيسكووحدها عشرة آلاف.

وقد عمل أعضاء الجماعة اليهودية موردين لحاجات الباحثين عن المضى في كاليفورنيا، ولم يعمل منهم في الزراعة سوى قلة نادرة. وكانت نسبة العاملين في مهن مثل الطب والقانون صغيرة، إذ كانت الأغلبية العظمى تعمل بالتجارة. ورغم حتى كثيراً من المهاجرين عملوا حرفيين في أوربا، فإنهم فضلوا حتى يعملوا تجاراً متجولين بسبب ازدياد الأرباح التي كان بوسعهم تحقيقها. ومع هذا، قد يحدث من الأدق حتى نذكر أنهم كانوا حرفيين يعملون تجاراً متجولين أيضاً إذ حتى بعض السلع التي كان يسوِّقها هؤلاء، مثل الملابس والأحذية، كانت من صنعهم. وقد بدأ التجار من أعضاء الجماعة اليهودية في عملية الترويج سيراً على الأقدام، فتحولوا إلى تجار يتجولون بعرباتهم التي تجرها الخيول، ثم إلى تجار يفتحون دكاكين صغيرة على مفارق الطرق، ثم إلى تجار كبار. واستمر هذا الاتجاه حتى العصر الحديث حيث نجد حتى تجارة التجزئة والمتاجر الكبرى ذات الأقسام المتعددة (بالإنجليزية: دبارتمنت ستورز department stores) يمتلكها بعض أعضاء الجماعة اليهودية. كما قاموا بالبيع من خلال الكتالوج، وهوالبديل الحديث للبائع المتجول. بل إذا الصناعات التي هجرز فيها أعضاء الجماعة اليهودية هي الصناعات الخفيفة التي يلتقي فيها التاجر بالصانع. ومن أبرز الباعة الجائلين الذين تحولوا إلى تجار كبار أبراهام شتراوس وجمبل، وهما من أصحاب المحال التجارية الشهيرة. وقد حقق أعضاء الجماعة اليهودية معدلاً عالياً من الاندماج في معظم مناطق الولايات المتحدة، ولكن يُلاحَظ حتى اندماجهم في مجتمع الجنوب كان أعلى بكثير منه في الشمال. ويعود هذا إلى حتى معيار التضامن في الجنوب كان اللون وحسب. ومن هذا المنظور، كان أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون جزءاً لا يتجزأ من الجماعة البيضاء المهيمنة. وذلك على عكس الشمال حيث كان الدين واللون هما الأساس، ومن ثم كانت النخبة من المسيحيين البروتستانت البيض من أصل أنجلوساكسوني (الذين ينطق لهم الواسب).

وقد تبنَّى أعضاء الجماعة اليهودية أزياء أعضاء النخبة الجنوبية البيضاء ولغتهم وعاداتهم ومهنهم، وامتلكوا العبيد وتاجروا فيهم، وكان هناك عدد من كبار تجار العبيد من اليهود. ومع هذا، تجب الإشارة إلى حتى اليهود لم يلعبوا دوراً أساسياً في تأسيس مؤسسة الرقيق ولا يختلف وضعهم هذا عن وضعهم في الولايات المتحدة حتى الوقت الحاضر، فهم قد يوجدون في أبرز المؤسسات وأكثرها حيوية، مثل المصارف، مع بقاء دورهم تابعاً مهما زاد عددهم ونفوذهم.

وقد شهدت هذه الفترة اندلاع الحرب الأهلية (1861 ـ 1865). ومن المعروف حتى أعضاء الجماعة اليهودية ظلوا بمنأى عن الحوار الذي دار حول مؤسسة الرقيق باستثناء حالات فردية، الأمر الذي أثار حنق الأوساط الليبرالية ضدهم. ويُلاحَظ حتى الحاخام إسحق وايز، أبرز شخصية يهودية آنذاك، قد لزم الصمت تماماً بشأن هذه القضية. ولعله كان، في موقفه هذا، لا يختلف كثيراً عن موقف بقية المواطنين في مدينة سينسناتي، وهي مدينة تقع على الحدود بين الفريقين المتصارعين في الشمال والجنوب. ولابد حتى نذكر هنا حتى أعضاء الجماعة اليهودية ككل لم يكن لهم موقف «يهودي» مستقل، وإنما تحددت ولاءاتهم بحسب مسقطهم الجغرافي، فكان يوجد سبعة آلاف جندي يهودي في جيوش الشمال وثلاثة آلاف في جيوش الجنوب، الأمر الذي يعكس اندماجهم في المجتمع وتقبُّلهم المواقف السياسية السائدة فيه.

وبعد الحرب الأهلية وإلغاء الرقيق، فُتح الجنوب الأمريكي للاستثمارات التجارية والصناعية. واستفاد كثير من التجار من أعضاء الجماعة اليهودية من أصل ألماني من النشاط الاقتصادي والتوسع الصناعي، وحققوا ثروات كبيرة في مجال التجارة والمصارف وصنع الملابس، فلقد قامت أعداد كبيرة من المتعهدين العسكريين اليهود بتزويد الجيوش المتحاربة بالأزياء العسكرية التي تطلبها، وحققوا أرباحاً طائلة. كما استفادوا من وصول يهود اليديشية، فاستغلوا هذه العمالة اليهودية الرخيصة في مؤسساتهم التجارية والصناعية، وهوما دعم مكانتهم وأكد قيادتهم للجماعة اليهودية. وبلغ المهاجرون اليهود الألمان ذروة مكانتهم في هذه الفترة.

وقد حاول أعضاء الجماعة اليهودية حتى يضعوا إطاراً تنظيمياً لوجودهم في الولايات المتحدة، فشُكِّلت هيئة المفوَّضين الإسرائيليين الأمريكيين (ويُلاحَظ عدم استخدام مصطلح «يهودي» لأنه كان يحمل إيحاءات سلبية في تصورهم)، وكذلك أُسِّست جماعة أبناء العهد (بناي بريت) عام 1843 وجمعية الشباب العبريين عام 1874، وكلها مؤسسات تقع خارج نطاق أي تحكم حاخامي أوأي إطار ديني، بل إذا المؤسسات الدينية نفسها كانت تعتمد عليها لبقائها واستمرارها. وقد عبَّرت الهوية اليهودية الدينية عن نفسها، وخصوصاً بين الألمان، من خلال اليهودية الإصلاحية، وهي صيغة دينية تسمح لليهودي بالتكيف مع وطنه الجديد في الولايات المتحدة. وقد أعربت اليهودية الإصلاحية عن مبادئها الدينية في مؤتمر بتسبرج الإصلاحي عام 1885، وتم تأسيس اتحاد الأبراشيات العبرية الأمريكية عام 1873، وكلية الاتحاد العبري عام 1875، وهي أبرز المؤسسات اليهودية الإصلاحية التربوية. ومع هذا، لم تكن هناك سلطة دينية مركزية، نظراً للتنوع الإثني لليهود، وبسبب الطبيعة الفيدرالية للمجتمع الأمريكي. والواقع حتى المهاجر اليهودي الألماني لم يكن يجد حتى ثمة علاقة كبيرة مع المهاجر اليهودي البولندي مثلاً، فقد كانت جميع جماعة تحتفظ بشعائرها الدينية وتؤسس معابد يهودية مختلفة باختلاف الأصول الإثنية اليهودية. وكان معظم يهود شرق أوربا يتبعون اليهودية الأرثوذكسية. وشهدت هذه الفترة حركة بناء للمعابد اليهودية الضخمة التي تشبه الكاتدرائيات.

ورغم حتى الحضارة الأمريكية قد دخلت، في هذه الفترة، فترة إبداعية في الآداب والفنون، فإن إسهام أعضاء الجماعة اليهودية فيها كان ضعيفاً، وذلك لكونهم جماعة مهاجرة لم يمتلك أعضاؤها ناصية اللغة الإنجليزية أومُصطلَحات الحضارة الجديدة. ولذا، لم يكن هناك كُتَّاب يهود في عصر ويتمان وملفيل ومارك توين سوى إيما لازاروس (1849 ـ 1887) وهي شاعرة ليست لها أهمية كبيرة. ويُلاحَظ تَزايُد اندماج أعضاء الجماعة اليهودية في جميع قطاعات المجتمع الأمريكي الذي كان يعبِّر عن هويته العرْقية عن طريق التعصب ضد السود والصينيين وعن هويته الدينية البروتستانتية عن طريق التعصب ضد الكاثوليك والمهاجرين الأيرلنديين وليس عن طريق معاداة اليهود على الطريقة الأوربية. وقد شهدت هذه الفترة ظهور واحد من أبرز مظاهر معاداة اليهود في الولايات المتحدة وهورفض عضويتهم في النوادي الأرستقراطية والنوادي الاجتماعية. وهوشيء سطحي تافه يشير على سطحية ظاهرة العداء لليهود في الولايات المتحدة وعدم تجذُّرها في المجتمع الأمريكي (ولذا فهوشكل من أشكال التحامل على اليهود، لا العداء ضدهم). فبينما كانت بعض النوادي الاجتماعية تمارس التفرقة ضد أعضاء الجماعة اليهودية، كانت المدن الأمريكية لا تمانع في هذه الفترة نفسها حتى تنتخب عُمداً ينتمون إلى هذه الجماعـة. كمـا كانت كثير من هـذه المدن لا تزال تمـارس التفــرقة ضد السـود بكل ضراوة، وتنكر عليهم أبسط الحقوق، مثل الالتحاق بالجامعات أوالجلوس على المقاعد الأمامية في الحافلات.

بداية الفترة اليديشية (1880-1922)

أ) الفترة الأولى: الهجرة الكبرى (1880 - 1929):

تغيَّرت السمات الأساسية للجماعة اليهودية في الولايات المتحدة لسببين: أحدهما خاص بحركيات المجتمع الأمريكي، والثاني خاص بالجماعـة نفسها. فبعـد الفترة التجـارية الأولى مـن تاريخ الولايات المتحدة، وبعد حتى حصلت الولايات المتحدة على استقلالها السياسي، وبعد حتى نجحت جيوش الشمال في توحيد السوق القومية في الولايات المتحـدة وفتـح الجنـوب الزراعي للنشـاط التجاري والاستثمارات الصناعية، تزايدت حركة التصنيع فأقيمت في هذه الفترة شبكة المواصلات السريعة، من البواخر والقطارات والطرق، التي قربت بين أجزاء القارة الأمريكية كما قربت بينها وبين بقية العالم، الأمر الذي سهَّل عملية الانتنطق والهجرة. ويُلاحَظ حتى حركة الريادة والاستيطان نحوالغرب كانت قد وصلت إلى نهايتها، وهوما يعني حتى المناطق المتاخمة المفتوحة التي كانت مجالاً مفتوحاً للحراك الاجتماعي أصبحت مغلقة. وقد أدَّى اتساع السوق إلى حتى الحرفيين لم يعودوا قادرين على إنتاج السلع التي تفي بحاجات المستهلكين المتزايدة، وبالتالي حلت المصانع الكبيرة محل الحرفيين في كثير من الصناعات القديمة. كما ظهرت صناعات جديدة مثل صناعة الصلب والسيارات وهي الصناعات التي غيَّرت وجه الولايـات المتحـدة. وأدَّى جميع هـذا إلى ازدياد الحاجـة إلى عمال صناعيين، كما فتحت الأبواب للمهاجرين، ومنهم يهود اليديشية الذين اتىوا بالألوف من روســيا وبولنـدا وغيرهما من بلاد شرق أوربا، فانخرط المهاجرون اليهود في صفوف الطبقة العاملة.

ثم شهدت هذه الفترة (بعد عام 1918) تحوُّل الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة إلى أبرز تجمُّع يهودي في العالم على الإطلاق وثاني أكبر تجمُّع، بعد التجمُّع اليهودي في شرق أوربا. وقد زاد عدد اليهود من 280 ألفاً من مجموع سكان تعداده 50.155.000 عام 1880 إلى 4.500.000 من مجموع سكان تعداده 115.000.000عام 1925. وبلغ عدد المهاجرين 2.378.000 بين عامي 1880 و1925، وكانت أعوام الذروة هي أعوام 1904 ـ 1908 حينما وصل 642 ألف يهودي معظمهم من شرق أوربا. وقد أثبتت الولايات المتحدة أنها أكثر جاذبية من فلسطين بالنسبة لليهود. ولذا، فهي بحق البلد المضىي (باليديشـية: جولدن مدينا) الذي يهرول إليه المهاجرون بدلاً من إرتس يسرائيل وأرض الميعاد.

وكانت نسبة العائدين إلى أوربا من أعضاء الجماعة هي النسبة الأقل بين مجموعات المهاجرين، باستثناء الأيرلنديين. ففي عام 1880، بلغت النسبة 25%، وانخفضت إلى 8% عام 1908، ثم وصلت إلى الصفر تقريباً عام 1919. وكان عمر المهاجرين بين 15 و40 سنة، أي حتى معظمهم كان قادراً على العمل والإنجاب، كما حتى نسبة الرجال إلى النساء كانت متعادلة وهوما يشير على حتى المهاجرين قد هاجروا بنية الاسـتقرار وليـس لتحقيق ثروة صغيرة يعودون بعدها إلى أوطانهم الأصلية.

وقد استقر المهاجرون في جميع المدن، في معظم الولايات والمناطق، فبلغ عدد المهاجرين اليهود في ولاية نيويورك عام 1918 نحو1.603.923، وفي ولاية ماساشوسيتس 189.671 نسمة، وفي ولاية نيوجرسي 149.476نسمة، وفي ولاية بنسـلفانيا 322.406 نســمة، وفي ولايـة أوهــايو166.361 نسمة، وفي ولاية كاليفورنيا 63.562 نسمـة.

وشهدت هذه الفترة تحوُّل بعض أعضاء الأرستقراطية الألمانية اليهودية من التجارة إلى المهن، فاشتغلوا بالقضاء والسياسة والأعمال المصرفية والمالية (مثل عائلتي كون ووربرج) والنشر والطب والوظائف المتصلة بالبحوث الفهمية والأدب والمهن الأكاديمية. وكان هذا التحول يعني تحرر أعضاء الجماعة اليهودية تدريجياً من ميراثهم الاقتصادي الأوربي وتَزايُد اندماجهم في المجتمع الأمريكي. وظهر بينهم رعاة للفنون مثل أسرة جوجينهايم. ويُلاحَظ أنه لم يكن يوجد سوى عدد قليل من اليهود في الشركات الكبرى التي سيطرت على الصناعات الثقيلة إذ هجرَّز اليهود في صناعات استهلاكية هامشية مثل صناعة السينما التي سيطر عليها وليام فوكس ولويس ماير والإخوة وارنر.

وفيما يتصل بالمهاجرين من شرق أوربا، وهم الذين نطلق عليهم «يهود اليديشية»، فقد انضموا إلى صفوف الطبقة العاملة، وخصوصاً في مصانع الملابس الصغيرة التي كانت تُسمَّى «ورش العرق»، والتي كانت تُقام في مكان ضيق قذر توضع فيه بعض ماكينات الخياطة البدائية ويقطن فيه صاحب المصنع وزوجته. وكان أصحاب هذه الورش من يهود شرق أوربا، نظراً لأنها لا بحاجة إلى رأسمال كبير ولا إلى خبرة غير عادية. كما كان بوسع أصحاب العمل استغلال العمالة اليهودية المهاجرة الرخيصة فيها، وخصوصاً حتى يهود شرق أوربا كانوا مركزين أساساً في حرفة الخياطة في بلادهم الأصلية. وقد كان عدد العمال في جميع ورشة لا يزيد في بعض الأحيان على خمسة يعملون مدة ست عشرة ساعة يومياً. وكان المموِّلون من أعضاء الجماعة اليهودية من أصل ألماني يمتلكون أيضاً ورش العرق، وخصوصاً بعد حتى حققوا ثروات ضخمة من الحرب الأهلية. وقد ظلوا أغلبية الملاك حتى عام 1914 حين زاد عدد صغار المموِّلين من شرق أوربا على عددهم من الألمان. وبلغ عدد العاملين في هذه الصناعة عام 1913 ثلاثمائة ألف يهودي. وقد نظمت هذه الطبقة العمالية نفسها على هيئة نقابات عمال في الفترة 1909 ـ 1916، وهي الفترة التي شهدت تحوُّل الورش إلى مصانع كبيرة وظهور الوعي العمالي والحركة النقابية في الولايات المتحدة. وقد عمل كثير من يهود شرق أوربا في صناعة الإبر ولف التبغ وصناعة البناء (نجارين ونقاشين)، وعملوا تجاراً صغاراً وبقَّالين. وكل هذا يشير على حتى ميراثهم الاقتصادي الأوربي كان لا يزال يحدد اختياراتهم وأن عملية الأمركة كانت لا تزال في بداية الطريق بالنسبة إليهم. ولكن يجب حتى نشير إلى أنه لم تكن تُوجَد أية قوانين في الولايات المتحدة ترغم أعضاء الجماعة اليهودية على الاضطلاع بوظائف معينة، فقد كان اليهود يهجرزون في صناعات دون غيرها، وفي مهن أوحرف دون أخرى، لا بسبب أي قسر خارجي وإنما بسبب طبيعة الخبرات التي حملوها من بلادهم ومقدار رأس المال الذي جلبوه معهم، ونوعية الكفاءات والخبرات التي يحتاج إليها المجتمع الجديد. كما يُلاحَظ حتى ميراثهم الاقتصادي كان يثقل كاهل المهاجرين الجدد من شرق أوربا وحسب. أما أعضاء الجماعة اليهودية من أصل ألماني، فقد اغتنموا جميع الفرص التي أتاحها لهم المجتمع الأمريكي ووصلوا إلى أعلى شرائحه واشتغلوا بجميع المهن. وقد لحق بهم أبناء يهود شرق أوربا بعد جيلين حين انتهت فعالية الميراث الاقتصادي مع انتهاء موجات الهجرة.


نهاية الفترة اليديشية وظهور اليهود الأمريكان (1929-1945)

كانت الولايات المتحدة، حتى ذلك التاريخ، حبيسة وضعها الجغرافي منغلقة على نفسها (وإن كان نفوذها قد امتد إلى أمريكا اللاتينية والفلبين)، ولذا لم تكن قد أدركت بعد دورها كقائد للعالم الغربي وللتشكيل الإمبريالي الغربي. ولكنها كانت فترة حضانة أخيرة للرأسمـالية الأمريكيـة، خرجـت بعدها عملاقاً اكتسح الجميع.

بدأت هذه الفترة بالكساد الأمريكي الذي غيَّر حياة كثير من الأمريكيين، وأثَّر في بنية المجتمع الأمريكي إذ تعطَّل كثير من العمال وأفلس ألوف من صغار رجال الأعمال. وقد تغيَّر الهيكل الوظيفي لأعضاء الجماعة اليهودية بشكل واضح، فلم يَعُد هناك أي يهود تقريباً يعملون في الزراعة أوالحرف اليدوية، ولم تكن تُوجَد سوى أعداد قليلة من اليهود في الصناعات الثقيلة سواء بين أصحاب العمل أوالعمال. وهجرَّز الأثرياء من أعضاء الجماعة اليهودية أساساً كسماسرة في البورصة والسينما، وفي أشكال الترفيه الأخرى، وفي بيع العقارات وتجارة التجزئة. أما الطبقة الوسطى اليهودية، فازداد هجرُّزها في المهن والأعمال التجارية الصغيرة ووظائف الياقات البيضاء. ويمضى بعض الدارسين إلى حتى هذا يعني حتى الجماعة اليهودية بدأت تلعب مرة أخرى دور الجماعة الوظيفية الوسيطة، وإن كان السياق قد اختلف، وإلى حتى اختلاف الشكل مجرد تعبير عن اختلاف السياق.

تزايد عدد الشباب من أعضاء الجماعة اليهودية الذي يمضى إلى الجامعات الحكومية أوالخاصة. ففي نيويورك، كان 49% من مجموع طلبة الجامعات يهوداً، وبلغ عدد الطلبة اليهود في مختلف الجامعات الأمريكية مائة وخمسة آلاف، أي 9% من عدد الطلبة. ويُعَدُّ توجُّه الطلبة عند تخرُّجهم نحوالأعمال التجارية والمهن مؤشراً جيداً على التحولات التي بدأت تحدث في هذه الفترة والتي بدأت تصوغ الهيكل الوظيفي لليهود بما يتفق مع وضعهم في المجتمع الأمريكي. وتراجعت اللغة اليديشية حتى اختفت تقريباً فاختفت الصحافة اليديشية اليومية وبقيت ثلاث مجلات أسبوعية لا يزيد توزيعها على اثنين وعشرين ألف نسخة معظم قرائها من كبار السن. وبدلاً من كونها لغة الشارع اليهودي الأمريكي، أصبحت لغة الشارع في وليامزبرج وهوالحي اليهودي الأرثوذكسي، حيث كانت لغة ثانية إلى جانب الإنجليزية. واختفى الأدب اليديشي، بل إذا بعض أدباء اليديشية بدأ يخط بالإنجليزية ويترجم أعماله إليها.

وفي العشرينيات، كانت أبواب الهجرة موصدة دون اليهود وغيرهم من المهاجرين ثم أُقفل بابها تماماً عام 1924. ولذلك، لم يزد عدد المهاجرين، من عام 1933 حتى عام 1937، على ثلاثة وثلاثين ألفاً. ومع تدهور الموقف في ألمانيا، ارتفع العدد إلى 124 ألفاً في الفترة بين 1938 و1941. وكان مجمـوع المهـاجرين في الفترة من 1933 إلى 1945، أي مدة اثنى عشر عاماً، نحو174.678 فقط معظمهم من ألمانيا والأراضي التي احتلتها. كان خُمس هؤلاء من المهاجرين المهنيين ونصفهم من الرأسماليين، وكان عدد كبير منهم من الشخصيات البارزة ثقافياً، مثل أينشتاين وحنا أرندت وأوبنهايمر، وقد لعبوا دوراً ملحوظاً في الحركات السياسية اليسارية والثورية وكذلك في البحوث الفهمية.

وبدأ أعضاء الجماعة اليهودية في هذه الفترة يفقدون كثيراً من تنوعهم، ويكتسبون شيئاً من التجانس، إذ أصبح أعضاء الجماعة اليهودية مواطنين أمريكيين اكتسبوا هوية أمريكية واضحة يتحدث معظمهم الإنجليزية ويمضى أولادهـم إلى معاهـد تعليم أمريكية يسـتوعبون فيهـا القيم الأمريكية. بل يظهر حتى الجماعة اليهودية المهاجرة كانت أسرع الجماعات المهاجرة تخلياً عن تراثها الثقافي ومنه اللغة، وفي التأمرك، وفي تبنِّي لغة المجتمع الجديد. وكان المدرسون من أعضاء الجماعة اليهودية من أنشط نادىة تعليم الإنجليزية للمهاجرين. وبدأت تنظيمات المهاجرين تتحول إلى بقايا أثرية. ولهذا، نجد حتى أعضاء الجماعة اليهودية بدأوا يلعبون دوراً في الحياة السياسية. وقد وجدوا حتى الحزب الديموقراطي هوالإطار الأمثل للتعبير عن مصالحهم، شأنهم في هذا شأن معظم المهاجرين والأقليات، فانضموا إليه بأعداد كبيرة. وهذه سمة جديدة ظلت لصيقة بالسلوك السياسي لأعضاء الجماعة اليهودية حتى الوقت الحالي. فقد منح ما بين 85 و90% من اليهود أصواتهم لروزفلت في الفترة 1933 ـ 1945. وبدأ أعضاء الجماعة يحققون بروزاً في الحياة الأمريكية، فكان منهم أحد الوزراء وثلاثة قضاة في المحكمة العليا، وأربعة حكام ولايات ومئات من كبار الموظفين الموجودين على مقربة من صانع القرار.

ويُلاحَظ أيضاً حتى عدداً كبيراً من أعضاء الجماعة اليهودية كان يوجد في صفوف الأحزاب الثورية. وكما قيل، فإن 50% من أعضاء الحزب الشيوعي كانوا من اليهود، كما حتى كثيراً من أعضاء المؤسسة الثقافية اليسارية كانوا، في فترة الثلاثينيات، من اليهود. وهذه سمة استمرت أيضاً لصيقة باليهود حتى الستينيات، وأخذت بعدها في الاختفاء.

ومع تزايد معدلات الاندماج، زاد ابتعاد أعضاء الجماعة عن العقيدة اليهودية ومؤسساتها، فتناقص عدد اليهود الذين يمضىون إلى المعبد. وتزايد نفوذ اليهودية الإصلاحية والمحافظة، وتراجع نفوذ الأرثوذكس مع ضعف مؤسسات المهاجرين وانخراطهم في صفوف المجتمع الأمريكي. وشهدت هذه الفترة ظهوراً متزايداً للمنظمات التي تقوم بجمع التبرعات من اليهود بشكل منتظم لصالح الجماعة اليهودية ثم لصالح إسرائيل. ومن أبرز هذه التنظيمات جماعة النداء اليهودي الموحَّد عام 1939، وتأسَّس مجلس يهودي عام لمنظمات الدفاع اليهودية الذي أصبح اسمه (عام 1941) المجلس القومي الاستشاري لعلاقات الجماعة اليهودية (بالإنجليزية: ناشيونال كوميونتي ريلشنز أدفيسوري كاونسيل National Community Relations Advisory Council). وقد بلغ عدد أعضاء الجماعة اليهودية في هذه الفترة خمسة ملايين حسب بعض التقديرات، المُبالغ فيها، من مجموع السكان البالغ مائة وأربعين مليوناً، وقد هجر الكساد أثره العميق في الأطر التنظيمية لليهود إذ حتى الضائقة المالية هجرت كثيراً من مؤسسات الرفاه الاجتماعي اليهودي دون ميزانيات كافية. وظهر عجز المنظمات أيضاً وفشلها في حتى تقوم بدور فعال لمساعدة يهود ألمانيا أوحتى فتح باب الهجرة أمامهم.

ويمكن القول بأن حرب أعضاء الجماعة اليهودية في أمريكا ضد النازية لم تكن حرباً يهودية خاصة، فقد ظلوا بمعزل عن الأحداث ولم يساهموا كثيراً في مقاطعة البضائع الألمانية، بل إذا أحد زعماء الجماعة، ستيفن وايز، ساهم في إفشال الجهود الرامية إلى تنظيم المقاطعة بإيعاز من الصهاينة. ولكن إسهام اليهود الأمريكيين (بوصفهم أمريكيين) في جهود الحرب كان كبيراً، فقد فَقَدَ 10.500 منهم حياتهم وجرح 24 ألفاً وحصل 36 ألفاً على نياشين، وهوما يشير على أنه لا يوجد مصير يهودي مستقل، وأن مصير أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة مرتبط تماماً بالمصير الأمريكي.

وقد احتدم الصراع بين الأقلية الصهيونية التي كانت تتزايد عدداً والأغلبية الاندماجية، وخصوصاً حتى المنظمة الصهيونية قرَّرت حتى تنقل مركز نشاطها من لندن إلى واشنطن مع انتنطق مركز الإمبريالية الغربية. ولذا، فقد عُقد مؤتمر بلتيمور الذي اتخذ قرار بلتيمور عام 1942 في الولايات المتحدة. وفي لقاء هذا، تم تأسيس المجلس الأمريكي لليهودية الذي كان يضم كبار رجال الأعمال (من اليهود الإصلاحيين أساساً) الذين حققوا معدلات عالية من الاندماج، والذين كانوا معادين للصهيونية. وربما تكمن المفارقة الكبرى في أنهم اتخذوا موقفاً رافضاً للصهيونية باعتبارهم أمريكيين في الوقت الذي بدأت فيه المؤسسة الحاكمة الأمريكية نفسها تأخذ موقفاً ممالئاً تماماً للصهيونية وترى فيها تحقيقاً لإستراتيجيتها في العالم. ولذا، كان محكوماً على المجلس الأمريكي لليهودية بالإخفاق.

اليهود الجدد أوالأمريكيون اليهود (1945-1970)

تخلت الولايات المتحدة في هذه الفترة تماماً عن سياستها الانعزالية وأصبحت قائد العالم الغربي بلا منازع. وازداد المجتمع الأمريكي فهمانية وازدادت الفهمانية شمولاً، وتم فصل الدين عن الدولة تماماً إذ وضعت المحكمة الدستورية العليا عام 1947 أسس هذا الفصل الحاد، فقد أعربت المحكمة حتى الحكومة الفيدرالية أوالمحلية ليس بإمكانها حتى تصدر قوانين من شأنها مساعدة أيٍّ من الديانات، ولا حتى تُفضِّل ديانة على الديانات الأخرى. وترسخت فكرة الحقوق المدنية، وبدأت الأقلية السوداء تطالب بحقوقها مع أوائل الستينيات، وظهرت حركة الحقوق المدنية. وتُسمَّى هذه الفترة «فترة الوفرة» التي اتسمت بضعف الأواصر الاجتماعية والقيم الدينية، وتزايد معدلات الفهمنة، وتوجُّه المجتمـع الأمريكي، بشـكل حـاد وبدون أي تردد، نحواللذة والمنفعة.

وقد تحوَّلت الجماعة اليهودية إلى جماعة أمريكية تماماً، المولودون فيها أكثر من المهاجرين إليها، وأصبحوا أساساً أعضاء في الطبقة الوسطى الأمريكية التي تسكن الضواحي، وذابت جميع علامات التميز الحضاري. ويرى فهماء الاجتماع حتى ثمة تقسيماً ثلاثياً يحكم المجتمع الأمريكي وهوأنه مجتمع تحكمه ديانات ثلاث، هي: البروتستانتية والكاثوليكية واليهودية، وهوما يعني عمق قبول اليهودية.

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، استمرت الحكومة في رفض السماح لأيٍّ من المهاجرين الجدد بدخول الولايات المتحدة. ومع هذا، صدر تشريع يسمح لبعض المُرحَّلين اليهود بالاستقرار. ودخل بالعمل ثلاثة وستون ألف يهودي، وكانت مجموعة غير متجانسة صغيرة العدد. ولذا، فإنها لم تُغيِّر الطابع العام الذي اتسمت به الجماعة اليهودية التي كانت قد تحدَّدت سماتها الأساسية واستقرت. وكان مجموع المهاجرين في الفترة من 1944 حتى 1959 لا يزيد على 191.693 إلى حتى تم إلغاء القوانين التي تحد من الهجرة عام 1965. وبلغ عدد المهاجرين في الفترة من 1960 إلى 1968 نحو73 ألف مهاجر يهودي، معظمهم اتى من إسرائيل بعد عام 1957، ومن الشرق الأوسط وكوبا، وإن كان الجميع ينتمون لأصل أوربي.

ارتفـع عـدد أعضاء الجماعة اليهودية إلى 5.200.000 عام 1957، ووصل إلى 6.000.000 عام 1970، وهذا يعني حتى عدد أعضاء الجماعة اليهودية كان آخذاً في التناقص بالنسبة لعدد السكان، وأن زيادتهم الطبيعية في الفترة من 1945 حتى عام 1969، أي خلال نحوخمسة وعشرين عاماً، لم تزد عن نحو700 ألف (وذلك بطرح عدد المهاجرين). وتسبب هذه الاتجاهات السكانية، التي أصبحت اتجاهات ثابتة، كثيراً من القلق في الأوساط اليهودية، وخصوصاً إذا تمت رؤيتها في سياق معدلات الاندماج المتزايدة والزواج المُختلَط.

وتوجد معظم الجماعات اليهودية في المدن الكبرى، ذلك حتى أربعين بالمائة من جميع اليهود يعيشون في نيويورك وحولها كما كان الحال منذ عام 1900. وبلغ عدد اليهود الذين يعيشون في نيويورك العظمى أي في نيويورك والضواحي المحيطة بها وشمال شرق نيوجرسي، وفي المدن التسع الكبرى (لوس أنجلوس ـ شيكاغوـ فيلادلفيا ـ بوسطن ـ ميامي ـ واشنطن ـ كليفلاند ـ بلتيمور ـ ديترويت) نحو75% من جميع أعضاء الجماعة اليهودية.

ويُلاحَظ حتى أعضاء الجماعة اليهودية لا يسكنون المدن نفسها وإنما يقطنون خارجها في الضواحي، وهذا من علامات الثراء المتوسط إذ لا يسكن المدن الكبرى سوى الفقراء (من السود والبورتوريكيين) أوكبار الأثرياء من المليونيرات. ولا توجد ضواح مقصورة على اليهود فما يحدد مسقط السكنى في الوقت الحاضر مقياسان ماديان أحدهما الدخل والآخر لون الجلد، ولم يَعُد الانتماء الديني أساساً للتصنيف. والواقع حتى أعضاء الجماعة اليهودية يُصنَّفون ضمن الأقليات البيضاء في الولايات المتحدة، وتنتمي أغلبيتهم إلى شريحة عليا من الطبقة الوسطى.

ومن الاتجاهات الجديدة التي شهدتها هذه الفترة زيادة عدد أعضاء الجماعة اليهودية في لوس أنجلوس، ففي عام 1945 كان عددهم يبلغ 150 ألفاً، زاد إلى 510 آلاف عام 1968. والشيء نفسه ينطبق على ميامي إذ زاد العدد من 7500 عام 1937 إلى 40 ألفاً عام 1948 و150 ألفاً عام 1970، وإن كان معظم اليهود هناك من العجائز. وحركة أعضاء الجماعة اليهودية إلى كاليفورنيا وميامي ليست مقصورة علىهم وإنما كانت جزءاً من اتجاه قومي أمريكي عام، حيث هاجر الكثيرون من وسط القارة الأمريكية إلى السواحل. ولذلك، نجد حتى يهود شيكاغوقد انخفض عددهم من 333 ألفاً عام 1946 إلى 285 ألفاً عام 1969.

وفيما يخص الهيكل الوظيفي والمهني لأعضاء الجماعة اليهودية، فقد شهدت الفترة بعد عام 1945 تَعمُّق الاتجاهات التي شاهدنا ظهورها في الفترة السابقة، إذ زاد عدد اليهود المشتغلين بالمهن في الطب والتدريس بالجامعات وداخل البيروقراطية الحكومية في جهاز الموظفين وتناقص عدد العمال المهرة وغير المهرة بنسبة كبيرة بحيث لا يكاد يوجد أي يهود بين عمال النقل وعمال المناجم. كما لا يوجد يهود في صناعة الأخشاب والتعدين والنقل كما كان الحال في الماضي، وتناقص عدد الفلاحين اليهود بحيث كاد ينعدم، كما تناقص عددهم في صناعة الملابس، أي حتى ميراثهم الاقتصادي الأوربي اختفى تماماً. ويمكن القول بأن ظهور المهني اليهودي هوالسمة الأساسية لهذه الفترة. عملى سبيل المثال، زاد عدد المهنيين في إحدى المدن الأمريكية (تشارلستون) أربعة أضعاف بين منتصف الثلاثينيات وعام 1948، وزاد عدد المهنيين في لوس أنجلوس في الفترة من 1941 إلى 1959 من 11% إلى 25%. ويظهر هذا في بروز شخصيات يهودية في مجالات التربية والعلوم والقضاء والمحاسبة، وفي زيادة عددهم في مجالات الترفيه والإعلام والنشر. وزاد عدد أعضاء الجماعة اليهودية الذين يعملون كوسطاء في مجالات تجارة القطاعي والبناء والعقارات في المدن الكبرى والترفيه وعالم المال والأسهم والسندات والصناعة وقطاع الإعلام والسينما والمسرح (نشر ـ معاهد موسيقية ـ مراكز ثقافية). وبينهم عدد من كبار أصحاب المزارع والمصانع في قطاع الصناعة الزراعية. ويُلاحَظ هجرُّز الرأسماليين من أعضاء الجماعة اليهودية في الخدمات الاستهلاكية وفي الصناعات الخفيفة وصناعات القطاع الوسط (صناعة الملابس وصناعة الفراء والمجوهرات والمشروبات الروحية وصناعة السينما). وهذا يشير على حتى ميراثهم الاقتصادي اليديشي ووضعهم كمهاجرين لا يزال له أثر في نمط حراكهم. و« يسيطر » الرأسماليون من أعضاء الجماعة اليهودية على بعض هذه الصناعات. ولكن إلى جانب هذا يُلاحَظ غياب الرأسماليين من أعضاء الجماعة اليهودية عن الصناعات الثقيلة، إذ تظل هذه الأخيرة (الفحم والفولاذ والمصارف والنفط والسيارات والسفن ووسائل المواصلات) في أيدي الواسب، أي البروتستانت البيض، وهم أعضاء النخبة الاقتصادية والسياسية الذين يتحكمون في العصب الأساسي للاقتصاد الأمريكي الذي يشكل مصدر النفوذ السياسي الحقيقي. وقد يحدث من المفيد حتى نذكر، في هذا المضمار، حتى المصارف الكبرى في الولايات المتحدة، وعددها خمسة وأربعون، لا يشغل اليهود المناصب العليا فيها إلا في خمسة مصارف. ويظل أغلبية اليهود ميسوري الحال أعضاء في الطبقة الوسطى من أصحاب الياقات البيضاء ممن يسكنون المدن أوضواحيها، وهـوما يعني بروزهم ولمعانهم دون حتى تكـون لهـم قوة اقتصـادية حقيقـية.

انظر أيضاً

  • حركة گالڤستون
  • تاريخ اليهود في الغرب الأمريكي
  • قائمة اليهود الأمريكان
  • Jewish American Heritage Month
  • United States military chaplain symbols, includes information on history of insignia for Jewish chaplain in U.S. military

ملاحظات ومصادر

عبد الوهاب المسيري. "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية". موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.

  1. ^ Sarna (2004) 356-60

للاستزادة

مسح

  • The Jewish People in America خمسة vol 1992
    • Faber, Eli. A Time for Planting: The First Migration, 1654-1820 (Volume 1) (1992) excerpt and text search
    • Diner, Hasia A. A Time for Gathering: The Second Migration, 1820-1880 (Volume 2) (1992) excerpt and text search
    • Sorin, Gerald. A Time for Building: The Third Migration, 1880-1920 (1992) excerpt and text search
    • Feingold, Henry L. A Time for Searching: Entering the Mainstream, 1920-1945 (Volume 4) (1992) excerpt and text search
    • Shapiro, Edward S. A Time for Healing: American Jewry since World War II, (Volume 5) (1992) excerpt and text search
  • Diner, Hasia. Jews in America (1999) online edition
  • Diner, Hasia. The Jews of the United States, 1654-2000 (2006) excerpt and text search, standard scholarly history online edition
  • Diner, Hasia. A New Promised Land: A History of Jews in America (2003) excerpt and text search; online edition
  • Eisenberg, Ellen, Ava F. Kahn, and William Toll, Jews of the Pacific Coast: Reinventing Community on America's Edge (University of Washington Press, 2009) ISBN 978-0-295-98965-5
  • Feingold, Henry L. Zion in America: The Jewish Experience from Colonial Times to the Present (1974) online
  • Glazer, Nathan. American Judaism (1957, revised 1972), classic in sociology
  • Heilman, Samuel C. Portrait of American Jews: The Last Half of the 20th Century (1995) online edition
  • Hyman, Paula E., and Deborah Dash Moore, eds. Jewish Women in America: An Historical Encyclopedia, 2 vol. (1997).
  • Kaplan, Dana Evan, ed. The Cambridge Companion to American Judaism (2005)
  • Norwood, Stephen H., and Eunice G. Pollack, eds. Encyclopedia of American Jewish history (2 vol ABC-CLIO, 2007), 775pp; comprehensive coverage by experts; excerpt and text search vol 1
  • Sarna, Jonathan D. American Judaism: A History (2004), standard scholarly history

مواضيع متخصصة

  • Abramovitch, Ilana and Galvin, Sean, eds. Jews of Brooklyn. (2002). 400 pp.
  • Cutler, Irving. The Jews of Chicago: From Shtetl to Suburb. (1996)
  • Dalin, David G. and Kolatch, Alfred J. The Presidents of the United States and the Jews. (2000)
  • Diner, Hasia R. and Benderly, Beryl Lieff. Her Works Praise Her: A History of Jewish Women in America from Colonial Times to the Present. (2002). 462 pp. online edition
  • Dollinger, Marc. Quest for Inclusion: Jews and Liberalism in Modern America. (2000). 296 pp. online edition
  • Howe, Irving. World of Our Fathers: The Journey of the East European Jews to America and the Life They Found and Made (1976) excerpt and text search, classic account; exaggerates importance of Yiddish culture and socialism; neglects role of religion
  • Jick, Leon. The Americanization of the Synagogue, 1820-1870 (1976)
  • Kaplan, Dana Evan. American Reform Judaism: An Introduction (2003) online edition
  • Karp, Abraham, ed. The Jews in America: A Treasury of Art and Literature. Hugh Lauter Levin Associates, (1994)
  • Linzer, Norman, et al. A Portrait of the American Jewish Community (1998) online edition
  • Maisel, Sandy, and Ira Forman, eds. Jews in American Politics (2001), with voting statistics on p. 153
  • Moore, Deborah Dash. GI Jews: How World War II Changed a Generation (2006)
  • Moore, Deborah Dash. At Home in America: Second Generation New York Jews. (1981).
  • Morowska, Ewa. Insecure Prosperity: Small-Town Jews in Industrial America, 1890-1940 (1996)
  • Neu, Irene D. "The Jewish Businesswoman in America." American Jewish Historical Quarterly 66 (1976–1977): 137-153.
  • Silverstein, Alan. Alternatives to Assimilation: The Response of Reform Judaism to American Culture, 1840-1930. (1994). 275 pp.
  • Staub, Michael E. Torn at the Roots: The Crisis of Jewish Liberalism in Postwar America. (2002). 392 pp. online edition
  • Whitfield, Stephen J. In Search of American Jewish Culture. (1999). 307 pp.
  • Wirth-Nesher, Hana, and Michael P. Kramer. The Cambridge Companion to Jewish American Literature (2003) online edition

مصادر رئيسية

  • April 10, 1972, online
  • Salo Wittmayer Baron and Joseph L. Blau, eds. The Jews of the United States, 1790-1840: A Documentary History. ثلاثة vol.(1963) online
  • Farber, Roberta Rosenberg, and Chaim I. Waxman, eds. Jews in America: A Contemporary Reader (1999) excerpt and text search
  • Gurock, Jeffrey S., ed. American Jewish History series
    • The Colonial and Early National Periods, 1654-1840. , vol. 1 (1998). 486 pp.
    • Central European Jews in America, 1840-1880: Migration and Advancement. vol. 2. (1998). 392 pp.
    • East European Jews in America, 1880-1920: Immigration and Adaptation. vol. 3. (1998). 1295 pp.
    • American Jewish Life, 1920-1990. vol. 4. (1998). 370 pp.
    • Transplantations, Transformations, and Reconciliations. vol. 5. (1998). 1375 pp.
    • Anti-Semitism in America. vol. 6. (1998). 909 pp.
    • America, American Jews, and the Holocaust. vol.سبعة (1998). 486 pp.
    • American Zionism: Mission and Politics. vol. 8. (1998). 489 pp.
  • Irving Howe and Kenneth Libo, eds. How We Lived, 1880-1930: A Documentary History of Immigrant Jews in America (1979) online
  • Marcus, Jacob Rader, ed. The Jew in the American World: A Source Book (1996.)
  • Staub, Michael E. ed. The Jewish 1960s: An American Sourcebook University Press of New England, 2004; 371 pp. ISBN 1-58465-417-1 online review

وصلات خارجية

  • Davis S. Wyman Institute for Holocaust Studies; "A Thanksgiving Day when Jews Mourned.", copyright 2005. accessedسبعة September 2006.
  • New York Times (NYT), October 15, 1943; p. 21; "Moves for Admission of 100,000 Refugees - Barbour Offers Resolution for Entry of Racial Victims"; accessed December 12, 2006 (There may be a charge for this article if accessed online.)

مراجع

  • Jewish American History
  • online Jewish encyclopedia
  • American Jewish Historical Society - Chapters in American Jewish History
  • Presidential speech (Ronald Reagan, Apr 12, 1984), reading report of (Jewish) Navy Chaplain Arnold E. Resnicoff, present at the 1983 Beirut barracks bombing: unique occasion of a U.S. President reading a rabbi's words: Text version of speech; Video version of that speech
تاريخ النشر: 2020-06-04 10:47:28
التصنيفات: التاريخ الأمريكي اليهودي

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

مادلين أولبرايت.. ذكريات ومواقف

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:16:51
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 90%

متظاهرون يقتحمون مقر الديمقراطي الكردستاني في بغداد

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:16:42
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 86%

كندا تهزم جامايكا وتتأهل للمونديال بعد 36 عاماً

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:16:48
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 100%

بايدن: لم أدعو إلى تغيير النظام في روسيا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:16:35
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 90%

الجزائري رياض محرز يقترب من تجديد عقده مع مانشستر سيتي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:16:15
مستوى الصحة: 90% الأهمية: 95%

ما قبل الصراع

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:16:45
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 95%

"الذباب الملون".. جيوش إلكترونية على مواقع التواصل تثير الجدل في تونس

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:20:45
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 53%

بايدن يؤكد أنه لم يدعو لتغيير النظام في روسيا

المصدر: الإمارات اليوم - الإمارات التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:17:48
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 50%

شبيبة العدل والإحسان تعقد مجلسها الوطني وتنتخب مكتبها الجديد (بيان)

المصدر: الجماعة.نت - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:20:12
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 65%

استهداف جدة: «العولمة» و«النظام الدولي»

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:16:46
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 86%

توطين هذه المهن في السعودية يدخل حيز التنفيذ غداً

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:16:53
مستوى الصحة: 82% الأهمية: 91%

طقس الاثنين.. غيوم وأمطار في بعض مناطق المملكة

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:17:26
مستوى الصحة: 65% الأهمية: 72%

رسالة من سعودية للبيت الأبيض

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:16:44
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 94%

وزير الطاقة السعودي: سننفذ برنامجنا النووي بكوادرنا الوطنية

المصدر: بوابة أخبار اليوم - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:17:20
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 70%

فلسفتان للقوّة والضعف تتصارعان في أوكرانيا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:16:49
مستوى الصحة: 83% الأهمية: 91%

"الإخوان المسلمون"... المفككون

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:16:50
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 87%

كندا تحسم بطاقة تأهلها إلى المونديال لأول مرة منذ 1986

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-03-28 03:17:40
مستوى الصحة: 63% الأهمية: 75%

تحميل تطبيق المنصة العربية