عزيزة هارون

عزيزة عمر هارون (1923 - 1986)، شاعرة سورية رقيقة وحساسة، عجنها الألم وأغناها في الوقت نفسه، فقد تفتحت عيناها عليه قبل حتى تتفتح على الحياة.

كافحت طويلاً في سبيل شعرها الذي سكبت فيه عواطفها وأحلامها وآمالها، وأودعته حبها وغربتها المريرة، فكان هذا الشعر مرآة صافية عكست جميع عذاباتها وقهرها وخيباتها وإخفاقها في الزواج ثلاث مرات، من دون حتى ترزق أطفالاً، ولعل هذه التجارب القاسية هي التي زادت آلامها ومآسيها، وشعورها بالعذاب والألم والقلق والمراراة وعدم الاستقرار قائلة:

أنا في الأشواك يا فاتنُ لوتسأل عني

أجرع الصاب، وأقتات اللظى من أجل فني

أنا للّوعة في الدنيا وللبؤس أغني

ولدت الشاعرة عزيزة هارون في «حي القلعة» بمدينة اللاذقية، وتلقت دراستها في منزل والدها، ثم تابعتها وحدها، فقرأت جميع ما كانت تحتويه مخطة الأسرة من دواوين الشعر القديم والحديث وخط التراث، وقد استهواها الشعر بنوع خاص منذ نعومة أظفارها، فراحت تحاول نظمه قبل حتى تطلّع على قواعده وبحوره، لكن الزواج المبكر وغير المتكافئ في السن بابن عمتها حال بينها وبين متابعة الدراسة، والانصراف إلى الشعر قائلة:

عصبوا عينيّ لم ألمح من الدنيا سوى دار صغيرة

فتوغلت بإحســاسي، بقلبــي بالبصيرة

فعهدت الكون آلاماً، وأطماعاً حقيرة

ولمحت الكون جناتٍ نضيرة

سألها أحد الصحفيين يوماً حتى تروي له سيرة حياتها، وكيف صارت شاعرة، فأمسكت القلم وخطت: «تألمت وأغنتني الآلام، وأحسست بآلام الآخرين، وأحببت آلامهم، وتفتحت على الألم قبل حتى أتفتح على الحياة، وكافحت في سبيل شعري الذي صورت فيه حياتي المعذبة منذ فجر صباي…».

وكانت تشرق بالدمع حدثا تذكرت حياتها الخاصة، هذه الحياة التي لا ترجوها لامرأة وخاصة تلك التي ترغب حتى توفق بين شعرها وفنها وحياتها الزوجية.

تزوجت مرة ثانية الشاعر نذير الحسامي (1920-1996) فطُلّقت، ثم مرة ثالثة السياسي قدري المفتي فطُلّقت أيضاً، من الممكن لأنها لم تستطع حتى تنجب وأن تكون أماً، وقد سبب لها الإخفاق في الزواج والإنجاب آلاماً نفسية مبرحة تجلت في حياتها، وفي كثير من قصائدها مثل «حنان العطاء» و«بائعة الزهور» و«الأم» و«نداء الأمومة» التي أهدتها إلى الطفلة البائسة المحرومة من الحنان التي نادتها «ماما» وتعلقت بها من دون فهم سابقة، ففجر هذا النداء في نفسها ينابيع حب عميق كانت تجهله فنطقت:

أنا ماما يا بنيَّة

هكذا ناديتني

فانتشت بيَ آه

في جميع حنيَّة

يا سخيّة

أنتِ أغليتِ الهديّة

أنت أترعتِ كؤوسي

بالنداءات النديّة

فأنا ظمأى إليها

يا بنيّة

بعد حتى طوحها الطلاق ثلاث مرات قصدت دمشق باحثة عن أي عمل يقيم أودها، ويسد عوزها وفاقتها، فعطف عليها وزير الإعلام آنذاك، وأسند إليها وظيفة أمينة مخطة في «هيئة الإذاعة والتلفزيون»، وقد أتاحت لها هذه الوظيفة المريحة حتى تقرأ كثيراً وتتفرغ لنظم الشعر وإلقائه من حين لآخر عبر «ميكروفون» الإذاعة في برنامج «شاعر ينشد»، فطارت شهرتها، وأقبلت عليها النوادي الأدبية لتستضيفها في أمسياتها الشعرية، كمنتدى سكينة الذي كانت عضواً فيه، والندوة الثقافية النسائية التي احتضنتها، وفتحت لها الأبواب لتلقي قصائدها الوطنية والإنسانية والعاطفية.

لم تخط عزيزة هارون سيرة حياتها بقلمها، ولم يقم أحد من الأدباء والنقاد والباحثين بكتابة هذه السيرة الحزينة وهي على قيد الحياة، ولكن المرء يستطيع حتى يستنتج بعض أحداث هذه الحياة الغنية ووقائعها من شعرها الذي هجرته مشتتاً من دون حتى تفكر في جمعه ونشره في ديوان، وبعد حتى توفيت إثر إصابتها بالسقم الخبيث، كلفت الندوة الثقافية النسائية صديقتها الشاعرة عفيفة الحصني (1918-2003) جمع شعرها المنشور في مجلات «القيثارة» و«الآداب» و«الثقافة» و«الفهم» و«الموقف الأدبي» و«المواهب» (الأرجنتين) و«فكر»… وطباعته في ديوان صدر عام 1992، وقدّم له جميع من الأديبين: ألفة الإدلبي وعبد اللطيف الأرناؤوط.

رحلت هذه الشاعرة الجميلة الناعمة كأنداء الفجر، التي كانت مُلْهَمةً وملهِمةً معاً، بعد حتى عانت السقم طويلاً، من دون حتى يحس أحد بمعاناتها وأوجاعها، وبعد حتى قاست من ظلم الحياة، وخيبة الأمل، ومتاعب الدنيا مالا يعهده غير المقربين من صديقاتها وأصدقائها. وقد أقامت لها الندوة الثقافية النسائية حفل تأبين في مقرها أشاد فيه المتحدثون بأخلاقها الرفيعة، ولطفها الجم، ومودتها الصادقة، وحسن تعاملها مع الناس، ونقاء سريرتها، وبشاعريتها الخصبة، وموهبتها الفطرية… وقد جمعت مجلة «الثقافة» الدمشقية هذه الحدثات، ونشرتها في ملف خاص عنها، صدر في عدد حزيران/يونيو1986.

اتسم شعر عزيزة هارون الذي دار حول ثلاثة محاور هي: الأرض والوطن، الإنسان، الغزل، بالرقة والبساطة والعفوية والأنوثة والتأثر بالطبيعة… ويرد بعض دارسيها هذه العفوية إلى بعدها عن الدراسات الأكاديمية، وكانت تعتذر عن تلك البساطة والعفوية بقلة حظها من التعليم، في حين ردهما طه حسين (1889-1973) بعد حتى سمع شعرها في مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد في بلودان 1956 إلى تأثرها بالشعر الفرنسي، ولما عهد أنها لا تجيد الفرنسية نطق لها: «إن موهبتك الأصيلة نابعة من ذات نفسك، ولوكنتِ تجيدين الفرنسية لقلت إنك متأثرة بالشعراء الفرنسيين وبخاصة فرلين».

نطقت أكثر شعرها الوطني في المؤتمرات والمهرجانات والمناسبات التي كانت تدعى إليها، كأعياد الجلاء وثورة 23 يوليوفي مصر، وثورة الثامن من آذار في سورية، والجولان، وتشرين ، والشهداء، وفلسطين، والقدس… أما شعرها الغزلي فكان عفيفاً، لا ينحدر إلى مستوى الغريزة، بل يصعد إلى قمة النبل والمحبة والإنسانية، ويتميز بصدق العاطفة، ورقة المشاعر ورهافة الإحساس كقولها:

بنفسي … بكل شعور وشِعري

بكل زهوري وعطري … إليك إلى مقلتيك

نسائم حبي، وخفقةُ قلبي، ترف عليك

وبهجة عمري لديك

سأبدع لحناً يذوب إليك