ابن الراوندي

عودة للموسوعة

ابن الراوندي

ابن الرواندي

ابن الرواندي (و. 827 – ت. 911))، هوأبوالحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي، نسبة إلى قرية راوند الواقعة بين إصفهان وكاشان في فارس، ولد عام 210 هـ، وتوفي في الأربعين من عمره.

شهدت حياته تحولات ممضىية وفكرية كبيرة فقد كان في بداياته الفقهية واحد من أعلام المعتزلة في القرن الثالث الهجري ولكنه تحول عنهم وانتقدهم في كتابة "فضيحة المعتزلة" ردا على كتاب الجاحظ "فضيلة المعتزلة" فتحول إلى الممضى الشيعي وله كتاب "كتاب الإمامة" من اثار تشيعه القصير ولكن لقائه بأبوعيسى الوراق الملحد قد اخرجه من التشيع والاسلام وتحول بعده ابن الراوندي إلى أحد أبرز الملحدين والزنادقة في التاريخ الاسلامي.

حياته

هوأبوالحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي، نسبة إلى قرية راوند الواقعة بين إصفهان وكاشان في فارس، وكانت في قريته هذه مدرسة إسلامية، فالتحق بها ودرس مقدمات العلوم حتى اعتزم النزوح عنها إلى مدينة (الري).

وذهاب ابن الراوندي إلى مدينة الري بدلاً من إصفهان ـالمدينة العظيمة التي هي أقرب منها إلى موطنهـ طالباً للفهم فيها إنما يشير على حتى الري كانت من العواصم الفهمية في الشرق.

ولا نعهد من أيام دراسته هناك إلا أنه كان طالباً مجداً، أظفره اجتهاده بإعجاب أساتذته والمحيطين به في مدرسة الري. كما إننا لا نعهد شيئاً عن أساتذته والدروس التي تلقاها في الري والمدة التي قضاها في هذه المدينة على وجه التحديد، وإن كنا نعهد عنه أنه كان في تلك الفترة طيب السيرة، نقي السريرة، محافظاً على الفرائض الدينية، لا يقصر في شيء منها، مقيماً على السنن المرعية والآداب العامة. وفي هذه المدينة ألف كتابه (الابتداء والإعادة).

ويعتبر هذا الكتاب وكتابه الثاني الموسوم (الأسماء والأحكام) دليلاً على صدق انتمائه إلى الإسلام وعمق إيمانه. ولكنه لم يلبث حتى وضع خطاً أخرى حفلت بالانتقادات الموجهة إلى الشريعة الإسلامية والفرائض الدينية، ولم تسلم من مطاعنه حتى عقيدة التوحيد.

إلى غير ذلك انتهى الأمر بابن الراوندي المسلم المتشيع الذي يكن للإمام الصادق جميع مودة واحترام، إلى الإلحاد، وتوالت مؤلفاته في التشكيك في عقيدة التوحيد وفي يوم المعاد وفي العدل.

وتطرق في انتقاده للتوحيد إلى التشكيك في صفات الله مرة، وفي نفيها مرة أخرى، مع حتى المسلمين وجميع الموحدين من أتباع الديانات السماوية الأخرى، لا يجردون الله سبحانه وتعالى من صفاته، لأن هذه الصفات جزء لا يتجزأ من ذاته الوسطى، وكانت هذه الآراء كفيلة بإنفاذ حكم الإعدام فيه فوراً، إما على أعواد المشانق أوفي المحرقات.

ولكن ابن الراوندي لم يتعرض لشيء من هذا من معاصريه في القرن الثالث للهجرة، ولا حرقت خطه ومصنفاته، وقصارى ما وقع يومذاك هونهوض أهل الفهم والاختصاص بالرد عليه في خط ورسائل كثيرة.

والفضل الأول في إيجاد هذا الجوالفهمي إنما يعزى إلى مدرسة الصادق (عليه السلام) التي كانت حفيظة على حرية الرأي والبحث، ومن هنا اعتبرت آراء ابن الراوندي من قبيل المباحث الفلسفية فلم تلصق به تهمة الإلحاد والارتداد.

ومضى ابن الراوندي في تشكيكه إلى أبعد من هذا، فأنكر وجود الله وأزلية العالم، فلم يبق شك في كفره وإلحاده.

ومع حتى الشريعة الإسلامية تقضي على المرتد بالقتل، فإن أحداً لم يتعرض لابن الراوندي بسوء، واكتفى الفهماء بالرد على آرائه المعلنة.

وينسب إلى ابن الراوندي كتاب طعن فيه في نبوة الأنبياء وأنكرها، مما غلظ في موقفه الإلحادي، وإن كان إنكار وجود الله كافياً وحده لإثبات إلحاده، وكان ينبغي تلقاء تماديه في الإلحاد، حتى تنفذ فيه أحكام الشريعة الإسلامية بالقتل، ولكن المجتمع المعاصر له اكتفى بالرد عليه متسفيه آرائه.

وكانت بغداد في ذلك الوقت، أي في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة، العاصمة الجديدة ودار الخلافة، وكانت تتهيأ لأن تصبح المركز الفهمي والثقافي للعالم الإسلامي بأسره.

ولم يكن يمر يوم على بغداد دون حتى يصدر فيها كتاب حديث أورسالة فهمية، إذ كان الفهماء من جميع الأقطار يتوافدون عليها ويعرضون آثارهم وخطهم على الوسط الفهمي. وكان الناس من ناحيتهم متلهفين على قراءة جميع جديد، وعلى اقتناء الخط الجديدة التي يقوم الوراقون باستنساخها، حتى أصبح في بغداد أكثر من ألف وراق ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا ملاحقة الطلب المشتد على استنساخ الخط. فكان الوراق منهم يستعين بغيره للنهوض بهذه المهمة وكثيراً ما كان الوراقون يقتسمون الكتاب الواحد، فيقوم جميع منهم بنسخ جزء منه للإسراع في إخراجه.

فإن كان الكتاب لمؤلف ذي شهرة فهمية، أوكان موضوعه مثيراً للجدل والنقاش، اشتد الطلب على استنساخ الكتاب، حتى حتى النساخ كان يخط في اليوم الواحد بين خمسين إلى مائة صفحة، وتتم بعد ذلك عملية تجميع أجزاء جميع كتاب على حدة.

إلى غير ذلك ازدهرت مهنة الوراقة في بغداد، وازدهرت بالتالي حركة الثقافة والفهم. وإذا كان الناس ينظرون في يومنا هذا إلى الناسخين نظرة استخفاف، لأن هذه المهنة قليلة الجزاء المادي، حتى لقد أطلقوا في الإفرنسية اسم (جرات بابييه) على القائمين بهذا العمل من قبيل الاستهزاء بهم لأنهم (يحكون الورق)، وأطلقوا بالإنكليزية اسماً مماثلاً هو(سكراتش)، فإن مهنة الوراقة كانت محترمة في بغداد عاصمة الخلفاء العباسيين، وكانت تدر على أصحابها آنذاك مالاً وفيراً.

واعتباراً من النصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادي، ظهرت في أوروبا جماعة أخرى، إلى جانب جماعة الوراقين التقليديين، صناعتها تحرير النوتة الموسيقية. ومن الذين اشتغلوا بهذا العمل المحرر الفرنسي الأشهر (جان جاك روسو) الذي كان في فترة من حياته يعيش على كسبه من كتابة النوتة الموسيقية، فلما ظهرت المطابع الحديثة، وشرعت تطبع الخط والمذكرات والنوتة الموسيقية بسرعة أكبر وإتقان أفضل، بارت صناعة الكتابة اليدوية للنوتة الموسيقية، وانصرف عنها المشتغلون بها، ومنهم روسو.

ولكن ظهر نوع آخر من الوراقين أوالمحررين العصريين، وهؤلاء يختلفون اختلافاً كبيراً عن الوراقين القدامى الذين كان جميع همهم نسخ الخط دون تعديل في مادتها. أما الوراقون الجدد، فيطلقون عليهم بالإنجليزية اسم (غوست رايتر) أي المحرر الشبح. فإن أراد ذوثراء حتى (يؤلف) كتاباً دون حتىقد يكون ذا موهبة في التأليف، عهد إلى هؤلاء الأشباح في تأليف الخط، وأجزل لهم العطاء في لقاء انزوائهم، وظهر الكتاب وعليه اسم المثري باعتباره مؤلفه ومنشئه ومصنفه، وإن لم يقم بشيء من هذا قط(1).

ويطلق الفرنسيون على المشتغلين بهذا العمل اسم (نيجرو) أي الزنجي أوالملون، اعتقاداً منهم بأن من يسخر قلبه لآخر لا يختلف في شيء عن العبد أوالخادم الذي يبيع جهده لسيده.

وقبل المطبعة، كانت مهنة الوراقة مهنة شريفة محترمة تدر على أصحابها بدر المال، وكان هذا الاحترام ـولا سيما عند العرب ـ نابعاً من احترامهم للكلام المكتوب والكتاب المحرر، إذ حتى عرب البادية كانوا ينظرون نظرة إجلال إلى جميع كلام مكتوب باعتباره جامعاً لكل شيء وأن له تأثيراً في جميع شيء حتى في الأصنام والآلهة التي يعبدونها، وكان من تنطقيدهم المرعية تعليق المحررات على الكعبة، كما علقت الصحيفة التي خطها العرب ودعوا فيها إلى مقاطعة رسول الإسلام هووأهله وأسرته من بني هاشم وقد علقوها على الكعبة.

ولا نكون مغالين إذا قلنا إذا عصر الخلفاء العباسيين في بغداد كان العصر المضىي للوراقين الذين ظفروا بالاحترام العام والتقدير الكامل من الخلفاء والفهماء وطلاب الفهم على حد سواء.

وفي هذا العصر المضىي للوراقة، وصل ابن الراوندي إلى بغداد، وغايته في ذلك أمران: أولهما:

أن بغداد كانت المركز الفهمي الأول في العالم الإسلامي، فإن طبيعياً حتى يتوجه ابن الراوندي إلى هذا المركز طلباً للمزيد من الفائدة، ولعرض بضاعته من الثقافة والفكرة.

وثانيهما: حتى الخليفة العباسي كان مهتماً بالفهم مشجعاً للمؤلفين والمترجمين، وكان ينفحهم بعطايا وجوائز سخية، كما كان يستقدم الفهماء ويجزل لهم العطاء لكي يعملوا على نشر العلوم. فتوجه ابن الراوندي إلى مقر الخلافة أملاً في حتىقد يكون له نصيب من هذه العطايا.

وكانت شهرة ابن الراوندي قد سبقته إلى الأوساط الفهمية في بغداد بفضل كتابيه الأولين (الابتداء والإعادة) و(الأسماء والأحكام) اللذين وصلت مخطوطات منهما إلى بغداد قبل وصوله هو، وكما تجاوز قوله فإن هذين الكتابين كان قد ألفهما ابن الراوندي بروح المسلم الملتزم الطيب السيرة والسريرة، قبل حتى ينحرف به التفكير إلى شطط الزندقة والكفر.

ولكن شهرته في بغداد لم تكن تقاس بشهرته في الري وبلاد فارس حيث أقام مدة طويلة، وشغل الدوائر الفهمية بآرائه وشطحاته، فسعى إلى الذين لهم صلات بالأوساط الفهمية في بغداد لكي يزكوه لدى من يعهدون في عاصمة الخلافة، فحمله واحد منهم رسالة إلى وراق يدعى عباس الصرم. ولما استقر في أحد الفيروانات الكثيرة المخصصة للمسافرين في بغداد في ذلك الوقت(2)، أخذ يبحث عن الوراق ومعه نسخة من كتابه الموسوم (الفرند)، فلما اهتدى إليه، رجاه حتى يستنسخ له عدداً من النسخ من هذا الكتاب.

فشرع الوراق يتصفح الكتاب، ودقق النظر في عناوين فصوله، وكانت حيرته تزداد حدثا ازداد وقوفاً على محتويات الكتاب وجرأة صاحبه.

فنطق له: يا أبا الحسن (ابن الراوندي)، هل طالع أحد هذا الكتاب؟

فأجاب: نعم، هناك نسخ منه في متناول المهتمين بموضوعه في الرأي.

فنطق الوراق: يدهشني أنت ما زلت على قيد الحياة ناعماً بحريتك في الذهاب والإياب، على الرغم من هذا الكفر الذي تبثه في ثنايا الكتاب.

فنطق ابن الراوندي: ما سجلته في هذا الكتاب حقائق وليس بكفر.

فعاد الوراق عباس الصرم يقول له: لقد أنكرت الأصول الثلاثة للإسلام، وهي التوحيد والنبوة والمعاد.

فنطق ابن الراوندي: ليس الأمر كما تتصور، فلودققت النظر لعهدت أنني لم أنكر التوحيد، وإنما رغبت في تنزيه الخالق عن الخرافات التي تنسب إليه.

ثم طلب من الوراق حتى يكلف أحد كتابه من المعروفين بجمال الخط استنساخ الكتاب ليقدمه إلى الخليفة العباسي.

فنطق الوراق: أنصحك بألا تقدم على هذا الأمر لتجنب نفسك غضب السلطان وعقابه.

فنطق ابن الراوندي: لكن الذي سمعته عن الخليفة أنه رجل رحب الصدر، محب للفهم والفهماء، يهتم بالخط والمؤلفات الفهمية ويكافئ مؤلفيها بما ينفحهم من العطايا الجزيلة السخاء، وقد منيت نفسي الحصول على عطية جزيلة من الخليفة مكافأة لي على تأليف هذا الكتاب.

انتهى الحوار بينهما إلى لا شيء، ومع ذلك فقد وافق الوراق عباس الصرم على حتى يقدمه إلى وراق آخر هوالمطلب البصري عساه يوافق على أداء هذه المهمة له. ولكن ابن الراوندي كان صفر اليدين عند وصوله إلى بغداد، وكان يطمع في حل مشكلاته المالية متى عثر من يقدمه إلى الخليفة أويقدم إليه بعض مؤلفاته، فلما التقى بالمطلب البصري، كانت طلبته الأولى منه مساعدته على الاهتداء إلى أي عمل يكفل له العيش في بغداد.

واطلع الوراق على نموذج من خط ابن الراوندي، فألفاه رديئاً ولا يؤهله للعمل في استنساخ الخط. ومع ذلك، وافق على حتى يدفع إليه ببعض الخط لاستنساخها وتحريرها، على حتى يكافئه على عمله شيئاً فشيئاً حدثا فرغ من استنساخ فصل من الكتاب.

وكان المطلب البصري كغيره من الوراقين يشتري نسخة المؤلف، ثم يقوم باستنساخها في عشرات من النسخ، أي حتى الوراقين كانوا في القرن الثالث الهجري يقومون بالدور الذي تقوم به في يومنا الحاضر مؤسسات نشر الخط وطبعها وتوزيعها(3).

ولم يكن أمام ابن الراوندي إلا حتى يقبل هذه الوظيفة الجديدة. فقدم إليه الوراق نسخة من الكتاب المطلوب نسخه وكمية من الورق للكتابة عليها، إذ كان من عادة الوراقين حتى يزودوا المحررين بالورق ليضمنوا جودة النسخ وخروجها بالحجم المطلوب.

ويعود الفضل في نشر الخط والمعارف إلى من أبدع هذا الأسلوب، متوافقاً في ذلك مع تاريخ ظهور الورق، حتى كثرت المخطوطات وازدادت نسخها المتداولة، فحفظت لنا تراثاً فهمياً هاماً كان عرضة للضياع والفقدان، ولا ريب في حتى مبتدعي هذا الأسلوب قد سبقوا بقرون عدة غوتنبرغ الذي اخترع المطبعة الحديثة حتى لا يبقى في مدينة استراسبورغ أمي واحد بعد انتشار الخط(4).

عكف ابن الراوندي على استنساخ الكتاب، ولكنه تبين حتى فيه ما يستحق الرد والنقض، فوضع للكتاب حواشي تتضمن آراءه وتعليقاته على ما ورد في الكتاب، وصاغها في أسلوب فني. ولما احتاج إلى مال، حمل ما أنجزه من الكتاب إلى الوراق لكي يؤدي له ثمن ما أنجزه، فقام الوراق بمراجعة الجزء المستنسخ بعناية ودقة للتثبت من أمانة النقل وصحة الكتابة ونظافة الورق وسلامته، ففوجئ بالتعليقات والحواشي التي انتشرت في الكتاب دون حتىقد يكون لها وجود في النص الأصلي.

لما استفسر الوراق من ابن الراوندي عن موضوع هذه الحواشي والتعليقات التي لم ترد في الأصل، اعترف بأنه هوالذي أضافها.

فسأله الوراق عن سبب هذا التصرف، فأجاب: لقد وجدت المؤلف على خطأ وصوبت له ما سقط فيه من أغاليط.

ألفى الوراق نفسه ولأول مرة تلقاء محرر ومعلق يضع الحواشي والتعليقات على الخط على خلاف غيره من الكتاب والنساخين، ولكنه طلب منه إعادة كتابة نفس الصفحات بعد استبعاد هذه التعليقات والحواشي التي كان قد أضافها، قائلاً له أنه إذا أراد حتى يستمر في عمله هذا، فلا بد له من الالتزام بالنص دون زيادة أونقصان، ودون تغيير في عباراته أوإردافه بتعليقات وحواش.

وإزاء هذا الموقف من جانب المتوكل، عمد الشيعة إلى الالتزام بالتقية (التقاة) وعدم المجاهرة بولائهم لآل علي، وزاد هذا الموقف من مخاوف عباس الصرم من رد العمل لدى الخليفة في ما لوعهد حتى ابن الراوندي من فارس وله مؤلف في الإمامة ويغلب عليه التشيع، ثم إنه كان في نفس الوقت واثقاً من حتى ابن الراوندي لا بد حتى يلتمس سبيلاً آخر لحمل كتابه إلى الخليفة، فقرر الصرم حتى يقوم بنفسه بتقديم ابن الراوندي إلى الخليفة، زاعماً حتى هذا الرجل مصاب بداء الصرع وأنه برغم ذلك ألف كتاب (الفرند)، وكان في اعتقاده حتى من شأن هذه الظروف حتى ترد عن ابن الراوندي عادية الخليفة وتحول دون تكفيره ثم إعدامه، كما حتى من شأنها في الوقت نفسه حتى تدفع عنه تهمة إيواء هذا الرجل المتهم بالزندقة وتقديم العون له.

والحقيقة حتى ابن الراوندي، برغم شطحاته الفكرية، كان من العبقريات الفهمية في القرن الثالث الهجري، وقد خلف هذا الأصبهاني وراءه في عمر لم يجاوز الأربعين عاماً آثاراً فكرية لم يهجر مثلها أفذاذ الفهماء الذين عمروا في عصره سبعين عاماً أوثمانين.

فقد كان ـ كأعلام عصره ـ متضلعاً من جميع علوم يومه، ومنها الطب والرياضيات والفلك، وكان أول من نبه إلى حتى جسم الإنسان محاط طوال أيام حياته بأعداء تهم بالفتك به، ولكن الجسم نفسه يولد ما يقيه شرها، ويحافظ على سلامته وحياته. ومع أهمية هذه النظرية الفهمية، فلم يفطن إليها أحد في القديم ولا في العصر الحديث وإلى مطالع القرن العشرين، عندما تبين الأطباء الباحثون حتى الكريات البيضاء في الدم تقوم بدور الشرطي أوحرس الحدود فتحمي الجسم من هجوم الأجسام الغريبة، وبعبارة أخرى تقاوم الميكروبات والجراثيم التي تنتقل بالعدوى، وقد تحقق هذا الكشف الهام في سنة 1940م.

فالإتيان بهذه النظرية كان كافياً في حد ذاته لتكذيب ما ينطق من حتى ابن الراوندي مصاب بالصرع، لأن قائل هذه النظرية لا بد حتىقد يكون سليم العقل والتفكير.

وفي منتصف القرن الثالث، كانت أصول الطب السائدة سواء في الشرق أوفي الغرب مستمدة من مدرسة أبقراط القائمة على أساس وجود طبائع أربع، فإن تعادلت وتوازنت في جسم الإنسان سلم وتعافى، وإن اختل التوازن في ما بينها سقم، وإن بلغ الخلل درجة حادة، مات.

وبالبناء على هذه النظرية، تكون مسببات الموت أسباباً داخلية، ولا يتسبب فيه عدوخارجي. ولم يسبق لأحد حتى نطق بأن جسم الإنسان معرض طوال حياته لهجوم الجراثيم والميكروبات إلى حتى اتى العالم الفرنسي باستور في القرن التاسع عشر واكتشف الميكروب الذي ينقل العدوى، وأقام البرهان عملياً ونظرياً على صحة هذه النظرية.

أما الكريات البيضاء فلم تكتشف إلا في عام 1940م، فعهد الطب الدور الهام الذي تقوم به هذه الكريات الحيوية في مقاومة الميكروبات المهاجمة.

وفي عام 1950م، تحقق فهماء الطـــب من حتى هناك عــــاملاً آخر يطرد الأجســـــام الغريبة من الجسم ويسمونه (الجسم المضاد)، ومهمته الأساسية هي مقاومة الخلايا الغريبة وطردها من الجسم.

ولكي نعهد مدى أهمية هذه الأجسام المضادة التي اكتشفت في عام 1950م يحسن بنا حتى نشير إلى تقرير للدكتور روبرت آلن جود المشهور بتخصصه في أمراض السرطان والأستاذ بجامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة، فقد أثبت الدكتور جود في تقريره هذا حتى جسم الإنسان يولد ما يتراوح بين عشرة خلايا وعشرة آلاف خلية من خلايا السرطان منذ المهد وإلى آخر أيام العمر، ولولا الأجسام المضادة التي تطرد الخلايا الأجنبية من الجسم وتحول دون انقسام خلية(6) السرطان وانتشارها لنمت خلايا هذا الداء اللعين وغزت الجسم البشري كله. ومن رأيه حتى السبب لفي إصابة الشيوخ بالسرطان بنسبة تفوق نسبة إصابة الشباب به هوحتى جسم الشيخ يولد من الأجسام المضادة كمية أقل مما يولده جسم الشاب، وبالتالي يتعذر على الشيوخ مقاومة هذا الداء العضال.

ومما نطقه الدكتور روبرت آلن جود إذا وجود الأجسام المضادة بكميات غير كافية في جسم الإنسان يساعد على الإصابة بالسرطان، وإنه إذا أريد علاج هذا السقم فلا بد للطبيب من حتى يفكر في وسيلة لتقوية جسم المصاب وتمكينه من توليد قدر أكبر من الأجسام المضادة.

أوليس مما يثير الدهشة حتىقد يكون عالم من الفهماء مضى عليه أحد عشر قرناً ونصف قرن قد استطاع حتى يكشف سراً من أبرز أسرار الصحة البدنية، دون حتى ينتبه أحد إلى هذا الكشف، ودون حتى يهتم به الفهماء الباحثون في النصف الأول من القرن الحاضر؟

وقد لقيت نظرية ابن الراوندي التي طلع بها قبل ألف ومائة وخمسين سنة إعجاباً عاماً وقبولاً من الأوساط الفهمية والطبية في جميع أنحاء العالم بعد ما تبينوا صوابها، لأن الثابت عند جميع الأطباء حتى الإنسان هدف مستمر لأعداء خطرين يسعون إلى القضاء عليه، ويتمثل هؤلاء الأعداء في الميكروبات والفيروسات والخلايا الدخيلة.

ولابن الراوندي نظرية أخرى لا تقل شأناً عن النظرية السابقة مؤداها حتى الإنسان إذا ابتلي بسقم مستعص عز علاجه وفقد الدواء عمله تلقاءه، وجب حتى يحقن بسقم آخر ينقل إليه، إلى غير ذلك ينجومن خطر الموت، ومتى تم علاجه بهذه الكيفية من السقم الأول، قام الطبيب بعلاجه من السقم الثاني.

فإذا كانت هذه النظرية التي نطق بها ابن الراوندي في القرن الثالث للهجرة من البينات التي أقيمت على سقمه بالصرع، فقد أصبحت في القرون اللاحقة موضوع اهتمام الأطباء، إذ ثبت لديهم من التجربة حتى المصاب بسقم مستعص يمكن الاستعانة على علاجه تدريجياً بتعريضه للإصابة بسقم آخر، وقد تحققت نتائج هذه التجارب بمحض المصادفة والاتفاق، ولكن الأمر الذي عجز الأطباء قديماً عن الاهتداء إليه هونوع السقم الثاني الذي يستعان به في العلاج، ثم القدرة على التحكم فيه بعد نقله إلى المريض.

ومنذ القرن التاسع عشر بدأ تطبيق هذا النوع من العلاج الذي ولج طوراً جديداً بعد كشف الميكروب وسموم التوكسين.

فمنذ القرن التاسع عشر والأطباء يحاولون علاج الأمراض بإدخال الميكروب أوالتوكسين إلى أجسام المصابين بها.

ومن ذلك مثلاً حتى الدكتور وليم كالي قام في القرن التاسع عشر بتجربة نظرية ابن الراوندي، وبصورة خاصة في علاج السرطان، عن طريق إدخال التوكسين إلى جسم المريض. وقد تبين له أنه حدثا أخذ السقم الجديد في الظهور، بدأت أنسجة خلايا السرطان تتحلل وتزول، وبهذه الكيفية نجح في إنقاذ حياة أكثر من مائتي مريض كان شفاؤهم ميئوساً منه، فعاشوا بعد العلاج حياة طبيعية. وأقل نتيجة حققها هذا الأسلوب في العلاج هي إطالة أعمار المصابين بالسرطان في مراحله المتأخرة خمس سنين أخرى.

والمهم هنا حتى طريقة الدكتور كالي برهنت على صحة نظرية ابن الراوندي، وإن كانت تجارب تطبيقها قد توقفت لأسباب منها حتى السقم الثاني (المجلوب)، إذا كان سقماً ضعيفاً، عز عليه التأثير في وقف انتشار الخلايا السرطانية، وإن كان قوياً كان بمثابة علاج الأفسد بالفاسد فيضعف الجسم، وربما تعذر بعدئذ علاج السقم الثاني أوطال أمد علاجه.

إلا حتى الدكتور روبرت آلن جود استمر في ما بعد يعالج السرطان بطريقته المستمدة من نظرية ابن الراوندي. ويؤخذ من التقارير الفهمية حتى النجاح حالفه في كثير من الحالات.


خطه

وهذه قائمة ببعض مؤلفات ابن الراوندي، كما ذكرها الخياط في ثنايا رده على ابن الراوندي في كتابه (الفوز) وسائر المؤرخين، ونبدأ بالخط التي وضعها وهومع المعتزلة، ثم الخط التي وضعها بعد حتى هجرهم واختلف معهم، أوكما يقول ابن البلخي الخط التي وضعها وهوملحد وزنديق:

1ـ كتاب الابتداء والإعادة (ذكره ابن البلخي)

2ـ كتاب الأسماء والأحكام (ذكره ابن البلخي)

3ـ كتاب خلق القرآن (ذكره ابن البلخي وابن النديم)

4ـ كتاب البقاء والفناء (ذكره ابن البلخي)

5ـ كتاب لا شيء إلا موجود (ذكره ابن البلخي)

6ـ كتاب الطبائع في الكيمياء (ذكره الفوز وابن المرتضى)

7ـ كتاب اللؤلؤ (ذكره ابن البلخي)

وبعد انفصاله عن المعتزلة واختلافه معهم ألف الخط الآتية:

8 ـ كتاب الإمامة (ذكره الفوز وابن المرتضى)

9ـ كتاب فضيحة المعتزلة: وقد وضع الخياط كتاب (الفوز) رداً عليه.

10ـ كتاب القضيب: سماه ابن البلخي: كتاب القضيب المضىي (ذكره ابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان).

11ـ كتاب التاج: (ذكره الخياط وابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان) وذكره ابن النديم حتى أبا سهل النوبختي رد عليه في كتابه (السبك) (الفهرست ص117).

12ـ كتاب التعديل والتجوير: زعم فيه أنه من أسقم عبيده، فليس بحكيم في ما عمل بهم ولا ناظر لهم ولا رحيم بهم، كذلك من أفقرهم وابتلاهم (الفوز ص1).

13ـ كتاب الزمرد: ذكر فيها آيات الأنبياء فطعن فيها وزعم أنها مخاريق ـحسب كلام الخياطـ (ذكره ابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان والخياط).

14ـ كتاب الفرند: انتقد فيه الأنبياء، وقد رد عليه أبوهاشم (أشار إلى ذلك ابن المرتضى، ويقول ابن البلخي إذا الخياط رد عليه) (واتى ذكر هذا الكتاب عند ابن البلخي وابن المرتضى وابن خلكان).

15ـ كتاب البصيرة: (ذكره أبوالعباس الطبري، ونطق إنه ألف هذا الكتاب نزولاً عند رغبة اليهود وطعناً في الإسلام.

16ـ كتاب الدامق: ذكره ابن البلخي وابن المرتضى، وذكر ابن البلخي بأن الخياط رد على هذا الكتاب، ونطق أبوعلي الجبائي إذا ابن الراوندي خط هذا الكتاب بطلب من اليهود، وأثار غضب السلطان، وقد أمر بإحضاره لكنه هرب والتجأ إلى يهودي توفي عنده.

17ـ كتاب التوحيد (ذكره الخياط في الفوز (الفقرة 5) ).

18ـ كتاب الزينة (ذكره صاحب (كشف الظنون) 5: 9).

19ـ كتاب اجتهاد الرأي (ذكره ابن النديم في (الفهرست) ص177) وأضاف حتى أبا سهل النوبختي رد على هذا الكتاب.

ويقول المستشرق الفرنسي نيبرگ (Nyberg) في تقديمه لكتاب (الفوز) في درس ممتع: (يجب ألا ننسى الدور الهام الذي اضطلعت به المعتزلة في هذه الفترة في ميادين العلوم والدين والسياسة. وقد توافقت بداية ظهورهم مع قيام الدولة العباسية، وازداد نشاطهم واتسع نفوذهم ولا سيما في أيام المأمون والمعتصم والواثق الذين استعانوا بالمعتزلة وأسندوا إليهم مناصب حكومية هامة فأصبح رجالهم من أصحاب الرأي والمشورة.

فهذا أحمد بن أبي دؤاد، وهومن زعماء المعتزلة، أصبح قاضي القضاة ووزيراً للخليفة العباسي بالإضافة إلى المنزلة التي كان يحتلها عند المعتزلة. إلى غير ذلك أصبح المعتزلة الحزب الذي يظفر بالتأييد الرسمي، كما كان أقوى المذاهب والطوائف آنذاك، حتى حتى أصحاب الحديث والسنة من معارضيهم قابلوا مشكلات كثيرة انتهت بمحنة، كما وقع للإمام أحمد بن حنبل إمام الحنابلة الذي سجنه المعتصم وأفرج المتوكل عنه. واستمر نفوذهم إلى ما بعد وفاة الواثق الذي أعطاهم من الأهمية أكثر مما أعطاهم الخلفاء الذين سبقوه، فلما اتى المتوكل، واتخذ سبيلاً مختلفاً من أسلافه من حيث احترام أهل المذاهب والنحل، احتضن أهل السنة وأصحاب الحديث الذين طالما ترصدوا لهم، فهاجموهم شر هجوم، وانتقموا منهم أقسى انتقام. فأخذت المعتزلة تدافع عن نفسها وآرائها، وخط الجاحظ كتابه: (فضيلة المعتزلة) في هذه الفترة.

وقد مر بنا حتى ابن الراوندي وضع كتابه (فضيحة المعتزلة) في الرد على هذا الكتاب، ثم اتى الخياط ووضع كتابه (الفوز) الذي بين أيدينا رداً على ابن الراوندي. وللاستزادة من البحث نحيل القارئ إلى ما خطه نيبرغ: H.S. Nyberg, (Preface de Kitab AlIntisanr Abu Al Husayn B.Othman Al-Khayyat) Edition les lettres Orientales, Beyrouth,1957

ابن الراوندي والكيمياء

كان ابن الراوندي، كما أشرنا من قبل، من الأفذاذ القلائل الذين تبحروا في العلوم المتداولة في عصرهم، ومنهم الكيمياء. ولا ننسى أنه كان من الطبقة الثانية من تلامذة الصادق (عليه السلام)، إذ أخذ الفهم من أمثال جابر بن حيان.

وإذا قلنا إنه كان كيميائياً، فإنما نقصد به أنه كان خبيراً في خواص المواد والعناصر منفردة ومركبة، شأنه في ذلك شأن فهماء الكيمياء في عصرنا الحاضر، ولا نقصد أنه كان يستخرج المضى من المعادن الخسيسة كما قد يتبادر إلى الذهن حدثا جرى الحديث عن الكيمياء في القديم.

والواقع حتى الكيميائيين في القديم قد فشلوا أيضاً في استخراج المضى من العناصر الأخرى، وأنفقوا من المال والجهد في سبيل الظفر بهذا المعدن الأصفر ما يفوق بكثير قيمة المضى نفسه. ولم يختلف الوضع في العصور المتأخرة بالنسبة للكيميائيين الذين اجتهدوا في تحويل المعادن الخسيسة إلى مضى.

ومن هؤلاء الكيميائيين في العصور الوسطى (نيقولا فلامل) الذي وضع كتاباً في الكيمياء، وعاش في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي، أي بعد وفاة ابن الراوندي بستة قرون. ومما نطقه في كتابه (قانون استخراج المضى أوتحويل العناصر الأخرى إلى المضى) ما يلي:

(في اليوم السابع عشر من يناير سنة 1382، أخذت كمية من الجير الأبيض مع روح الجمر (الآكل) ونركتهما في قارورة من البلور، ووضعتهما فوق نار هادئة حتى أخذت تفور وتغير لونها إلى سواد، ومنه إلى بياض ناصع، ثم أخذ يشتد ويتحول إلى اصفرار، ثم وضعته في قارورة فيها زئبق، فبعدما سخنت الزئبق واختلط بالمادة التي أضفتها إليه، تكونت مادة غليظة بلون المضى. فحملت القارورة من النار، واندهشت إذ تبينت حتى هذه المادة بعدما مالت إلى البرودة كانت مضىاً، ولكنها أقل منه صلابة. فكنت أتصرف فيها وأطويها كما أشاء، وهذه حقيقة).

وليس ثمة ريب في حتى (نيقولا فلامل) قام بمحاولات عدة لتحويل العناصر المتنوعة إلى مضى، ولكن المؤكد حتى الذي توصل إليه ليس بمضى. ولم يعد أحد يحفل بالقيام بمثل هذه التجربة لأن فشلها معروف سلفاً. وإن رغب أحد في إجراء هذه التجربة، فليدرك حتى الزئبق يتحول بالحرارة إلى غاز سام.

وقد قيل إذا ابن الراوندي كان كيميائياً، أي كان على فهم بكيفية تحويل المعدن الخسيس إلى مضى.

ولوصح هذا القول، لما احتاج ابن الراوندي إلى القيام بعمل الوراقين في استنساخ الخط لقاء أجر زهيد.

ابن الراوندي وإرازموس

وحياة ابن الراوندي الأصفهاني في منتصف القرن الثالث الهجري شبيهة إلى حد بعيد بحياة إرازموس المسيحي الهولندي الذي عاش في أوائل القرن السادس عشر الميلادي، واشتهر بكتابيه (ثناء الجنون) و(الأمثال). وقد غلبت على (إرازموس) صفة التدين والنسك على خلاف ما اشتهر به ابن الراوندي، ولا سيما من خلال كتابه (الفرند). ومع ذلك، فقد اتىت نهاية إرازموس شبيهة بنهاية ابن الراوندي، من حيث اتهام كليهما بالكفر والزندقة.

وقد ترجم (إرازموس) الخط المسيحية المقدسة من اللغة اليونانية، وأتاح لأتباع المسيح الملتزمين الحصول على نص دقيق للعهدين القديم والجديد اللذين يتألف منهما (الكتاب المقدس).

ولما شاعت ترجمة إرازموس للعهد الجديد الذي يضم الأناجيل الأربعة، دهش المسيحيون إذ وجدوا حتى هذا الكتاب المقدس خلا من التناقضات، وأن شخصيات أصحاب الأناجيل الأربعة ظهرت من خلال هذه الترجمة واضحة مستقلة. وبهذا قدم إرازموس خدمة جليلة إلى المسيحية والمسيحيين بعمله هذا، وكافأه عليه كثير من الملوك المسيحيين بما أوفدوه إليه من الهدايا التقديرية. وأنشأت جامعة (لوون) في بلجيكا كرسي أستاذية يحمل اسم (إرازموس) تقديراً واحتراماً، كما حتى له تمثالاً ينتصب في حديقة محكمة العدل الدولية في لاهاي بهولندا.

ولكن، كيف من الممكن أن تتهم شخصية فهمية دينية من طراز إرازموس بالكفر والإلحاد،يا ترى؟ إذا الجواب على هذا السؤال كامن في الأسلوب الذي انتهجه إرازموس، فلولا جهده في كشف المتناقضات وإيضاح المبهمات في الخط المقدسة وصياغتها في نطقب يسهل على الجميع فهمه، لما ظهر الممضى البروتستانتي الإصلاحي.

سليم حتى إرازموس لم يكن من مؤسسي هذا الممضى، ولكن ترجمته مهدت الطريق لظهوره. لذلك حتى القس الألماني مارتن لوثر، لم يكد يقرأ ترجمة إرازموس للعهد الجديد، حتى هب إلى نقل هذا السفر المقدس إلى اللغة الألمانية إعجاباً به وتسهيلاً لفهم المسيحية على حقيقتها من جانب الشعب الألماني. ولعل لوثر لم يفكر آنئذ في الدعوة إلى ممضى حديث في المسيحية، ولكن ترجمته الجديدة كانت حافزاً على النهضة الدينية التي أطلق عليها اسم (البروتستانتية)، بمعنى الاعتراض على التنطقيد الدينية السائدة وإصلاحها.

ولما انتشرت ترجمة مارتن لوثر للأناجيل الأربعة نقلاً عن ترجمة إرازموس، وشاعت بين الناس، انبرى بعض المتزمتين والمتعصبين من المسيحيين إلى اتهام (إرازموس) بأنه أدخل البدعة، ورموه بمحاولة إشاعة الفرقة بين المسيحيين من خلال ترجمته للعهدين القديم والجديد، وحكموا عليه بالهرطقة والكفر.

ولكن جماعة أخرى من الآباء المسيحيين المتنورين نفت عنه هذه التهمة وأيدته، وأوفد البابا (آدرين السادس) رسالة إلى (إرازموس) نطق فيها إنه لا يشك في حسن نيته في ترجمة الكتاب المقدس، ولكن عليه إظهاراً لسلامة موقفه ودفعاً للشبهات حتى يوضح رأيه في الحركة البروتستانتية.

ولم يكن إرازموس يفكر في مناصبة لوثر أوالحركة البروتستانتية الجديدة العداء، إلا حتى رسالة البابا دفعته إلى نشر كتاب مفتوح نفى فيه تأييده للوثر وللحركة البروتستانتية. ومع ذلك، ما زال كثير من المهتمين بالدراسات المسيحية في هذا القرن (العشرين) يعتبرون إرازموس من مؤسسي الحركة الإصلاحية البروتستانتية.

أوردنا ما تقدم لكي نوضح حتى أوجه الشبه بين إرازموس و(ابن الراوندي) في العقيدة الدينية قليلة إذا لم تكن معدومة لأن الأول كان من رجال الدين الأتقياء، ولم يتوخ بترجمته للعهدين القديم والجديد إشاعة الفرقة بين المسيحيين، حتى وإن افترض حتى هذا كان مقصده، في حين حتى ابن الراوندي كان على النقيض منه تماماً من حيث الإيمان والسلوك.


ابن الراوندي والخليفة المتوكل

والواقع حتى ظهور ابن الراوندي في القرن الثالث الهجري كان من آثار حرية الرأي والبحث التي أرست مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) نادىئمها، وجادت بيانع الثمار في النهضة الفهمية الفريدة التي ظهرت في عصر الدولة العباسية. وقد حرص الشيعة على هذه الحرية، فكانت من مسببات استقرارهم وتوسعهم وتقدمهم، ولم نقرأ في تاريخ الشيعة حتى حكم الإعدام قد نفذ في أحد لمجاهرته برأي يخالف العقيدة السائدة، ولا حتى تهم الزندقة والإلحاد قد وجهت إلى أحد بسبب رأي فلسفي مضى إليه أوخلاف في أمور العقائد، وغاية ما في الأمر حتى الشيعة كانت تسمي معارضيها بالمخالفين أوالمعاندين وحسب.

وقد وفق ابن الراوندي إلى تقديم كتابه (الفرند) إلى الخليفة العباسي المتوكل، الذي ألقى عليه نظرة متفحصة سريعة ولم يطالعه بتدقيق وإنعام نظر، ولكن هذه النظرة السريعة كانت كافية لإثارة غضبه وانتباهه، لأن ابن الراوندي ضمن كتابه فصلاً عن تاريخ شجرة السروفي كاشمر، وكان المجوس ينظرون إليها نظرة تبجيل اعتقاداً منهم بأن الزردشت هم الذين غرسوها(9).

ومما رواه ابن الراوندي أيضاً حتى المسلمين كانوا بدورهم يقدسون هذه الشجرة ويجلونها، وهوقد كان يهدف من عرض القضايا التاريخية والاجتماعية إلى تعزيز رأيه الفلسفي، كما كان يقصد من عرضه لتاريخ شجرة السروالكاشمرية حتى يقول إذا هذه الشجرة اكتسبت قداسة وألوهية عند الناس.

فلما قرأ المتوكل هذا الكلام، غضب غضباً شديداً، ونطق: ما كنت أفهم حتى في خلافتي وفي دار الإسلام شجرة خضراء يعبدها الناس، وفي سورة غضبه، طلب بتر هذه الشجرة واقتلاعها من جذورها خشية حتى تنبت من جديد. وبعث بأوامره إلى طاهر بن عبد الله بن طاهر واليه على خراسان، طالباً منه حتى يتحقق من هذا الأمر ويوافيه بتقرير عاجل.

فأوفد طاهر بن عبد الله جماعة لكي تتحرى صحة هذا الأمر، ثم خط إلى الخليفة قائلاً: نعم، الشجرة قائمة، والناس يكنون لها احتراماً دون حتى يعبدوها. وأضاف أنه لم يجد في خراسان أحداً يقول بألوهية هذه الشجرة.

ومما رواه القزويني حتى الخليفة أمر ببتر الأشجار ونقل أغصانها وفروعها إلى بغداد، ومن غرائب المصادفات حتى الأشجار المقطوعة وصلت إلى بغداد في نفس اليوم الذي اغتال فيه المتوكل بيد ابنه المنتصر (236) هـ، وقيل وقتها إذا المنجمين حذروا المتوكل من بتر هذه الشجرة لئلا يتعرض لحادث مؤلم.

وينطق إذا مؤبد المؤبذان (الحراق) بخراسان نادى بالموت(10) على الخليفة عندما سمع أنه أمر ببتر هذه الشجرة.

أما النقطة الثانية التي أثارت نقمة المتوكل وحيرته في كتاب (ابن الراوندي) فهي كلامه عن آراء الناس في الله وفي التوحيد، فسأل الخليفة ابن الراوندي: هل قرأ كتابك هذا غيري،يا ترى؟ فأجابه: نعم، فزاد هذا في دهشته ونقمته، ونطق: كيف من الممكن أن يهجر مثلك حراً بعد هذا الكفر؟

ثم نطق لابن الراوندي: أنت أنكرت وجود الله، وتقول إذا ما تعتقده الناس في الله أسطورة من الأساطير انتقلت من جيل إلى جيل،يا ترى؟ كيف من الممكن أن تقول هذا،يا ترى؟ ومن خلق الخلق وأوجد العالم إذا كانت هذه الحقيقة في رأيك أسطورة؟

فلزم ابن الراوندي الصمت خوفاً من غضب السلطان وتحاشياً لنقمته وعقابه. فنطق له الخليفة: إذا من ينكر وجود الله، عليه إقامة الحجة على ذلك، ولولا هذا لأمرت بقتلك، فأجاب ابن الراوندي: يجب تسليم قولي بأن أعظم الأساطير في حياة الإنسان هوتصوره عن الخالق.

فسأله المتوكل: ما قصدك من هذا الكلام؟

نطق: إذا تصورات الإنسان عن الخالق والمبدأ محاطة بالأوهام والأساطير، لأن فكر الإنسان يعجز عن إدراك الخالق أوفهم أوصافه.

فنطق المتوكل: إنني أقبل منك هذا الرأي والتوضيح، لكن عليك حتى تضيفه إلى كتابك وتسجله بنفسك.

واستطرد ابن الراوندي يقول: من أعظم الأساطير في حياة الإنسان تلك الصورة التي يرسمها الإنسان بوهمه عن الخالق.

نطق المتوكل: فإذن أنت تعترف بوجود الله، وتراه خالق جميع شيء،يا ترى؟ نطق: نعم يا أمير المؤمنين. أعترف بذلك.

فأخذ المتوكل يسأله عن النقطة الثالثة في كتابه (الفرند)، التي تدور حول النبوة وإرسال الرسل، وكان بعض الشيعة قد تصدى للرد على ابن الراوندي حول هذا الموضوع، ولكن المتوكل كان خالي الذهن عن ذلك.

وكان ابن الراوندي قد طعن في حجة المتحدثين حين أقاموا البرهان على وجوب إيفاد الرسل لإرشاد الخلق وهدايته، قائلاً: ليس بواجب على الله حتى يرسل الرسل أويبعث أحداً من خلقه ليكون نبيه ويرشد الناس إلى الصواب والرشد، لأن في قدرة الله وفهمه حتى يجعل الإنسان يرقى ويمضي إلى رشده وصلاحه بطبعه، كما خلق الشجر والنبات وهي تنمووتثمر دون حتى يجعل لها نبياً.

فنطق المتوكل: أنت أنكرت ضرورة إرسال ومهمة الأنبياء، وأنت بهذا تنكر أصلاً من أصول الإسلام؟

وعلى الفور انتقل ابن الراوندي إلى ما خطه بعض الشيعة في الرد عليه، وبدأ يوضح للخليفة أنه يقصد من هذا الكلام الرد على المعتزلة، وأنه لا يشك في حتى الإنسان يختلف عن الحيوان والنبات، وأنه بحاجة إلى رعاية وتربية منذ الولادة إلى آخر يوم من أيام حياته، وأن الإنسان خلق ليعيش مع غيره ويستأنس بمثله، يقتدي به ويقلده ويأخذ عنه، ومن مقتضى العقل حتىقد يكون الأخذ والتقليد من الإنسان الكامل، فكيف لوكان نبياً مرسلاً،يا ترى؟ إلى غير ذلك ينتظم المجتمع الإنساني، ويرقى الإنسان ويسير نحوالكمال.

فنطق الخليفة: فإذن أنت مقر برسالة الأنبياء والخط المرسلة؟

نطق ابن الراوندي: نعم.

فطلب منه الخليفة حتى يسجل هذا بخط يده، فعمل.

آراؤه

الموت في رأي ابن الراوندي:

من المسائل الهامة التي تعرض لها ابن الراوندي في كتابه (الفرند) مسألة الموت، وقد استثار هذا الرأي انتباه المتوكل، فسأله: ما معنى هذا الكلام الذي تنسبه إلى الحكيم فيثاغورث حيث يقول: (ما دمت موجوداً، فلا موت، وإن اتى الموت، فلا وجود لي، فلا داعي إذن للتفكير في أمر ليس لي به شأن وأنا حي؟) أوليس هذا هوكلام المشركين الذين ينكرون حقيقة الموت والبعث،يا ترى؟ أوليس هذا كلام حكماء اليونان الملحدين؟

فأجاب ابن الراوندي قائلاً: يا أمير المؤمنين، لم أحاول حتى أطرح هذه المسألة من الناحية الدينية، وإنما أوردت آراء الحكماء السابقين في الموت، وكيف حتى سر الموت لا سبيل إلى معهدته، فالإنسان منذ ما خلق وهويبحث عن سر الموت لكي يحول دون وقوعه، فأخفق حتى الآن في هذا السعي، وقد لا يوفق في الاهتداء إلى سره إلى الأبد.

فنطق المتوكل: إذا عهد المرء كيف من الممكن أن يحافظ على توازن جسمه، وكيف ينهار هذا التوازن، فلعله يعهد سر الموت ويحول دون وقوعه.

فدهش ابن الراوندي لذكاء المتوكل ودقة تعبيره، وعقب عليه قائلاً: يا أمير المؤمنين، هذه وظيفة الأطباء الحكماء والمتحدثين.

فنطق المتوكل: إذا التحقق من سر الموت وفهم مصير الإنسان لا ينحصر في الأطباء وحدهم، لأن لفهماء الدين والتفسير دوراً أبرز في فهم سر الموت من خلال تفسير الآيات القرآنية، وتدبر معانيها وما ترمز إليه.

ويفهم من كلام المتوكل هذا حتى المسلمين كانوا في هذه الحقبة التاريخية يعتقدون بأن للآيات القرآنية معاني ظاهرة ودلالات خفية أومعاني باطنية، وأن استكناه المعاني غير الظاهرة ليس في مقدور أي مسلم أوأي إنسان.

ومنذ ما ظهر الاعتقاد بالوجه الظاهري والوجه الباطني للآيات القرآنية في مطلع القرن الثاني الهجري، وهذا الاعتقاد آخذ في الاتساع ولا سيما في القرنين الثالث والرابع للهجرة، حتى لقد ظهرت فرقة إسلامية عهدت ب (الباطنية)، لأنها كانت تفسر الآيات القرآنية وتؤلها بمعانيها غير الظاهرة.

ويتصور البعض حتى الشيعة وحدهم هم الذين يعتقدون بوجود معان باطنية أوغير ظاهرة للقرآن الكريم، في حين حتى هذا الاعتقاد كان شائعاً لدى المسلمين منذ القرن الثاني للهجرة، وكانوا يستشهدون على وجود المعاني الظاهرة والباطنة بآية قرآنية تشير إلى هذا(11).

وكانوا يعتقدون كذلك بأن لكل من يعهد المعاني الباطنية والخفية في القرآن الكريم مرتبة تدنومن مرتبة النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يفهم حقائق القرآن بالوحي، فإن عهدها غيره كانت له مرتبة رفيعة في الفهم. ومن رأي الشيعة حتى الأئمة كانوا يعهدون حقائق القرآن بفضل اقترابهم من الرسول (صلى الله عليه وآله) وتوارثهم لفهمه وفضله.

وكان لابن الراوندي آراء في الموت تسترعي الاهتمام وتثير الدهشة، منها قوله في نظرية له بأن (الناس جميعاً لا يفهمون كيف من الممكن أن يموتون، ولوجرب الإنسان الموت ما أدركه أوعهده حق الفهم، وإن معاينة موت الآخرين لا تفهم الإنسان شيئاً عن أسرار الموت).

وله نظرية ثانية تقول: (لا يسع أحداً حتى يعد نفسه ميتاً، لأن هذه الحالة تستحيل مع الحياة، لأن المرء إذا تخيل أوافترض بأنه ميت، كان هذا التخيل أوالظن في حد ذاته دليلاً على أنه حي وليس بميت، لأن التفكير والتخيل والظن هي من خصائص الأحياء). ومؤدى نظريته الثالثة أنه (لا يسع أحداً حتى يشعر بعد موته بأنه جسد ميت، لأن هذا الشعور يتنافى مع الموت الحقيقي الذي يموت معه جميع شعور أوإحساس).

ويضيف ابن الراوندي إلى ذلك قائلاً (إن الميت ينسلخ من شعوره الباطني أوضميره، لأن الضمير من خصائص الحياة. ولوحتى ميتاً عهد نفسه، وشعر بأنه في حالة معينة، لكان معنى ذلك أنه ليس بميت، لأن الميت لا يشعر بشيء ولا يفطن إلى من حوله، ولا يعهد أهله والمجتمعين من حوله، ولا يشعر ببكاء الغير على فقدانه، ولووقع شيء من هذا القبيل، لكان غير ميت).

وتقول النظرية الرابعة لابن الراوندي إنه (لا يسع الميت حتى يتصور نفسه في العالم قبل الموت، ولوتوفي أبوالحسن (كنية ابن الراوندي نفسه) ووضع في قبره، لم يتأت لهذه الجثة الهامدة حتى تتصور نفسها في عالم ما قبل الموت، أوحتى تشعر بأنها أبوالحسن).

وأما النظرية الخامسة لابن الراوندي، فمؤداها (أن النظريات الأربع التي تجاوز إيرادها مستمدة من كون الإنسان عاجزاً عن إقناع نفسه بأنه سيموت، وبأنه سينعدم من هذا الوجود، فلدى الإنسان شعور بأنه لن يموت أبداً، وأنه حين يثوي في قبره سيعيش ويبقى حياً، وإن يكن ذلك بطريقة أخرى وبنشأة تختلف عما كان عليه في هذه الدنيا).

ومما يؤيد هذا الاعتقاد حتى الإنسان يرقد نائماً في جميع يوم ثم يصحومن نومه، مما يجعله يعتقد بأن الموت شبيه بالنوم، وبأنه سينهض منه كما ينهض جميع صباح من نومه، ثم إذا الأحلام التي يراها النائم تعزز هذه الفكرة بدورها وتطرد من مخيلته فكرة الموت أي العدم) ويقول ابن الراوندي في كتابه (الفرند): (إن الإنسان قد يرى نفسه ميتاً في الحلم، في حين هوحي، فيزيده ذلك اعتقاداً بأن حالة النوم لا تختلف عن الموت في شيء، وبأن الموت شبيه بالنوم الطويل العميق، وبأن الإنسان الراقد في سبات الموت يعهد نفسه ويرى ما حوله ويدرك ما يجول في خاطره.

ولكن الواقع خلاف ذلك، لأن الجسم البشري متى فارقته الروح وأدركه الموت، يفقد جميع شعور وإحساس، ثم تدب فيه عناصر البلى شيئاً فشيئاً، ويتحول إلى عناصر وأجسام أخرى، كما حتى الشعور والأحلام والخواطر إذا هي إلا من عمل الجسم البشري الحي).

وفي هذا المقام يستشهد ابن الراوندي بما درج عليه المصريون القدماء من تحنيط أجساد الموتى اعتقاداً منهم بأنهم عائدون إلى الحياة من جديد، ولهذا فإنهم كانوا يحاولون الاحتفاظ بالجسم سليماً ليتسنى للروح العودة إليه بعد ذلك متى أرادت. ولكنه يأخذ على المصريين تجريدهم أجسام الموتى المحنطة من الأمعاء والقلب، قائلاً: كيف من الممكن أن لجسم كهذا حتى تدب فيه الروح متى عادت إليه مرة أخرى؟

هذه طائفة من الآراء الجريئة التي نادى بها ابن الراوندي وأحدثت ضجة كبيرة في بغداد كادت تنتهي بقتله بتهمة الإلحاد والكفر، لولا توبته في محضر الخليفة المتوكل.


نقد

يقول عبد الرحيم العباسي مؤلف كتاب (معاهد التنصيص) (طبع بولاق عام 1274 هـ ص176ـ177): (كان (ابن الراوندي) أحد المتحدثين المعتزلة، عاش في بغداد، ثم ألحد وارتد وانفصل عن المعتزلة). ونقل عن أبي القاسم البلخي (وهوتلميذ لأبي القاسم الخياط وأحد المعتزلة الذين تصدوا لآراء ابن الراوندي ووضعوا رداً على خطه) قوله في كتابه (محاسن خراسان): (كان ابن الراوندي من المعتزلة العظام. لم يواكبه أحد في سبر غور فهم الكلام. ولم يكن أحد أعهد منه بمذاهب أهل الملة واختلاف آرائهم. وكان في بداية أمره على صحة الممضى وحسن السيرة، ثم حاد عن الطريق، وهجر المنهج والسبيل الحق. وقيل إذا ذلك كان لغضبه على رفاقه الذين طردوه من حلقتهم وناديهم، فأخذ يؤلف خطاً لأبي عيسى الأهوازي (اليهودي) ).

وقد توفي ابن الراوندي في داره في أهواز. وأحصى البلخي خمسة فقط من خطه، هي: (كتاب التاج) وقد دافع فيه عن أبدية العالم، و(كتاب الزمرد) وقد أطلق عليه هذا الاسم اعتقاداً منه بأنه كتاب سيعمي أعداءه ومعارضيه كما يعمي الزمرد عيون الأفاعي، و(كتاب الفرند)، و(كتاب اللؤلؤ) و(كتاب الدامق)، وقد أودعه كلاماً عن الخالق يسوء ذكره، فاعتبر ما في الدنيا من ظلم وشر وسوء من خلق الخالق. وفي كتاب (الفهرست) لابن النديم استشهاد بما ذكره ابن البلخي.

وعده ابن المرتضى في كتابه (طبقات المعتزلة) من الطبقة الثامنة، وأضاف أنه انحرف وأصبح زنديقاً ملحداً، ووضع كتاب (التاج) وكتاب (عبث الحكمة) الذي طعن فيه على ممضى التوحيد وتحدث عن الثنوية، وكتاب (الدامق) الذي عارض فيه القرآن الكريم، وكتاب (الفرند) الذي انتقد فيه بعث الرسل ورسالة الأنبياء، وكتاب (الطبايع) وكتاب (الزمرد) وكتاب (الإمامة) وقد رد عليه وعلى آرائه ومؤلفاته جماعة منهم الشيخ أبوعلي (الجبائي) والخياط والزبيري وأبوهاشم الذي رد على كتابه (الفرند).

ومن خلال عرضنا السريع لأقوال أصحاب السير والتواريخ، يتبين حتى ابن الراوندي كان من الشخصيات الفهمية البارزة، ومن أعلام المعتزلة في القرن الثالث الهجري، ويربي عدد مؤلفاته على مائة وثلاثين كتاباً. أيد المعتزلة، ووضع لهم الكتاب تلوالكتاب للدفاع عن آرائهم الكلامية والفلسفية، إلى حتى انفصل عنهم، فأخذ ينتقد آراءهم ومناهجهم ويرد عليهم، فرموه بالزندقة مرة، وبالإلحاد أخرى، وبالميل إلى الرافضة، وأخيراً بالميل إلى اليهودية.

والجميع متفقون على حتى ابن الراوندي كان في مستهل حياته صائب الرأي، سليم العقيدة، وذلك عندما كان يلتقي مع المعتزلة في رأيهم حول الإمامة ومسائل عقائدية أخرى، وما لبث حتى وضع كتابه (الإمامة).

وهذا الكتاب هوبداية انحراف ابن الراوندي إلى الزندقة والكفر، يقول الخياط في سياق نقله لهذا الكتاب: (كتاب (الإمامة)، يطعن فيه على المهاجرين والأنصار (باختيارهم الخليفة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ) ويزعم حتى النبي (صلى الله عليه وآله) استخلف عليهم رجلاً بعينه ومسماه ونسبه، وأمرهم حتى يقدموه، ولا يتقدموا عليه، وأن يطيعوه ولا يعصوه، فأجمعوا جميعاً إلا نفراً يسيراً، خمسة أوستة، على حتى يزيلوا ذلك الرجل عن الموضع الذي وضعه في رسول الله (صلى الله عليه وآله) استخفافاً منهم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتعهداً منهم لمعصيته).

يبدومن هذا حتى السبب الرئيسي في انحراف ابن الراوندي ـفي نظر الخياطـ هوميله إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتفضيله إياه على غيره، وتأكيده بأن الخلافة أوالولاية قد خصه النبي (صلى الله عليه وآله) بها، فهاجم الخياط لذلك ابن الراوندي وعده فاسقاً ومنحرفاً. وبعدما انشق عن جماعة المعتزلة لهذا السبب، وضع كتابه الثاني رداً على كتاب (فضيلة المعتزلة) لعمروبن بحر الجاحظ، وسماه (فضيحة المعتزلة). وأثار هذا الكتاب غضب المعتزلة جميعاً، فتصدوا له بطرق ووسائل شتى، فهذا أبوالحسين بن عثمان الخياط المعتزلي يضع كتاباً عنوانه (الفوز) في الرد على ابن الراوندي وكتابه (فضيحة المعتزلة)، وبفضل كتاب الخياط هذا الذي رد فيه فقرة فقرة على آراء ابن الراوندي ومؤلفاته، عهدنا شخصية ابن الراوندي وقيمته الفهمية ومؤلفاته الكثيرة التي وضعها، وإن كان لم يصلنا منها إلا كتابان هما (الابتداء والإعادة) و(الفرند)، وفقرات من كتاب (فضيحة المعتزلة) كما وردت في كتاب الخياط.

ولم يقف المعتزلة عند هذا الحد في مهاجمتهم لابن الراوندي وطعنهم عليه، بل سعوا عند الخليفة لإيغار صدره عليه، فأمر بالقبض عليه، لولا أنه فر من بغداد ومات متخفياً في الكوفة.

وقد نطق القاضي أبوعلي التنوخي إذا أبا الحسين (ابن الراوندي) كان يعاشر الملاحدة. وعندما سئل عن ذلك، نطق إنه يريد حتى يعهد معتقداتهم وأفكارهم. وقيل إذا أباه كان يهودياً فأسلم، فنطق اليهود للمسلمين إنه سيخرب عليكم دينكم كما عمل أبوه بديننا.

ويقول أبوالعباس الطبري: (لم يستقم يوماً ابن الراوندي، ولم يستقر في ممضى ولا مسلك. وخط كتابه (البصيرة) لليهود لقاء أربعمائة درهم استلمه من يهود سامراء، ثم عكف على رد المتاب بنفسه، فدفع له اليهود مائة درهم آخر ليمتنع عن الرد) (راجع (معاهد التنصيص) ).

والتقى ابن الراوندي بأبي علي الجبائي على جسر بغداد، وسأله: (هل سمعت معارضتي للقرآن؟) فأجاب أبوعلي: (إنني أعهد قدرك وفهمك ورفاقك الملحدين، ولكن إذا أشهدت قلبك وضميرك، هل تجد ما يريحك ويرضيك عن عملك هذا،يا ترى؟ وهل تجد أنسق نظماً وأجمل عرضاً وأسقط في النفس من القرآن؟). فأجاب ابن الراوندي: (لا والله). فنطق أبوعلي: (إذن، امضى إلى حيثما شئت). (راجع (معاهد التنصيص) ).

وحدثا زادت شقة الخلاف بين ابن الراوندي والمعتزلة حدثا زادت الاتهامات الموجهة إليه، حتى قيل إنه يناصر اليهودية على الإسلام، بل قيل إنه يهودي، وإنه يلجأ إلى اليهود ويموت في أحضانهم.

ولم يذكر المؤرخون الذين تعرضوا لحياة ابن الراوندي الأسباب الحقيقية التي أدت إلى إلحاده وزندقته، فمنهم من نطق إذا الفقر هوالذي ورطه في هذا، ومنهم من نطق إنه كان خاضعاً لليهود، ومنهم من نطق إنه خط في الإلحاد لأن هناك من أغراه بالمال على ذلك، حتى لقد قيل إنه تقاضى ثلاثين ديناراً عن تأليف كتاب (الإمامة).

وقد اتى في الفقرة 66 من كتاب (الفوز) ما يناقض الحقيقة من ناحية، ويوضح مدى غضب المعتزلة وكرههم لابن الراوندي. يقول الخياط: لقد هجره أكثرهم (أي المعتزلة)، فبقي طريداً وحيداً، فحمله الغيظ الذي دخله على حتى مال إلى الرافضة.. فوضع لهم كتابه (الإمامة) (الفوز ص77).

والحقيقة حتى ابن الراوندي وضع كتاب (الإمامة) قبل ظهور الخلاف بينه وبين المعتزلة، وأنه أغضب المعتزلة عندما وضع كتابه (فضيحة المعتزلة)، وأثار غيظهم وسخطهم فنسبوه إلى الإلحاد مرة وإلى الزندقة أوالثنوية واليهودية مرة أخرى.

ومات ابن الراوندي في أخريات القرن الثالث الهجري، وأغلب الظن أنه عاش ما يقارب ثمانين سنة. وذكر صاحب (كشف الظنون) أنه توفي في 301 للهجرة (ج4 ص446 و5: 60). فإذا كانت ولادته كما نطق أكثر المؤرخين قد حدثت في سنة 205 أو215 للهجرة، فوفاته حسب (معاهد التنصيص) سقطت في سنة 298، كما أشار إلى ذلك ابن النجار.

ونطق المسعودي في (مروج المضى) (ج7: 237) بعد ذكر وفاة أبي عيسى الوراق في سنة 247 للهجرة: (وتوفي أبوالحسين أحمد بن يحيى إسحاق الراوندي في رحبة مالك بن طوق) ونطق البعض في بغداد سنة 245 للهجرة عن عمر يناهز 40 سنة وقد ألف 114 كتاباً وبهذاقد يكون ابن الراوندي من معاصري عيسى الوراق.

المصادر

  1. ^ Al-Zandaqa Wal Zanadiqa, by Mohammad Abd-El Hamid Al-Hamad , First edition 1999, Dar Al-Taliaa Al-Jadida, Syria (Arabic)
  2. ^ ابن الراوندي وآراؤه الجريئة

المراجع

  • كتاب عبد الرحمن بدوى : "كتاب تاريخ الالحاد في الاسلام"

وصلات خارجية

  • The blinding emerald: Ibn al-Rawandi's 'Kitab al-Zumurrud.'


تاريخ النشر: 2020-06-04 20:36:48
التصنيفات: Persondata templates without short description parameter, مواليد 827, وفيات 911, ملحدون إيرانيون, نقد الإسلام, مسلمون سابقون من إيران, ماديون, فلاسفة العصور الوسطى, فكر حر

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

إعادة تعيين الشيخ أحمد نواف الصباح رئيسا لوزراء الكويت

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:17:26
مستوى الصحة: 81% الأهمية: 95%

الولايات المتحدة بصدد تزويد أوكرانيا بذخائر مزودة باليورانيوم

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:21:01
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 55%

ترامب يعتبر محاكمته فدرالياً "استغلالاً شريراً وشنيعاً للسلطة"

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:16:38
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 99%

أخوّة محسوبة: إلى متى ستستمر الصداقة بين روسيا والصين

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:17:04
مستوى الصحة: 76% الأهمية: 94%

الدقائق الطويلة لترامب في جلسته التاريخية أمام المحكمة الفدرالية

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:16:37
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 88%

محاكمة ترمب قد تمتد طويلاً.. فماذا لو فاز بالرئاسة؟

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:18:06
مستوى الصحة: 91% الأهمية: 93%

إفريقي هو المشتبه به الوحيد بمقتلة الطعن الثلاثية في نوتنغهام

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:17:23
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 86%

مفاجأة مدوية بقضية القرش قاتل الروسي..التهم ضحيتين أيضا!

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:17:51
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 90%

روسيا وأوكرانيا: منشق روسي يروي رحلة هروبه من البلاد سيرا على الأقدام

المصدر: BBC News عربي - بريطانيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:16:28
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 100%

مبابي عن ميسي: لم ينل الاحترام الذي يستحقه في فرنسا

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:18:37
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 94%

آخر أخبار الاقتصاد من العربية:

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:18:32
مستوى الصحة: 79% الأهمية: 93%

مشروع "شمال-جنوب": تقاطع إيراني وقطّاع تركمانستاني وشاطئ هندي

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:17:03
مستوى الصحة: 93% الأهمية: 90%

سعر الريال السعودى اليوم الأربعاء 13 يونيو 2023 فى البنوك المصرية

المصدر: موقع الدستور - مصر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:21:00
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 57%

عملية نادرة.. جندي يفتح النار على زملائه في اليابان

المصدر: العربية - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2023-06-14 06:17:22
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 97%

تحميل تطبيق المنصة العربية